مونديال 2018: السياسة في ملاعب الرياضةد. مثنى عبداللهJun 19, 2018
هل من علاقة وطيدة ومستديمة بين السياسة والرياضة؟ وهل باتت السياسة تُسيّر الرياضة وتتحكم في مفاصلها؟ هذه الأسئلة وغيرها تُطرح دائما عندما تقام محافل رياضية كبرى، مثل كأس العالم والألعاب الأولمبية وغيرها. وعندما ننظر إلى الشروع في الحصول على حق تنظيم البطولات الكبرى، نرى بصورة واضحة حجم الضغوط السياسية التي ترتفع وتيرتها للفوز بحق التنظيم.
كما نلاحظ كيف أن الكثير من المباريات تلغى تبعا لحصول توترات في علاقات دولتين أو أكثر. هذا يؤكد بما لا يقبل الشك في أن هنالك علاقة خاصة بين الرياضة والسياسة، وأن هنالك استثمارا كبيرا في الحقل الرياضي لتحقيق مكاسب سياسية على المستويين الداخلي والخارجي للدول المنظمة والمشاركة معا، مثال ذلك قرار رئيسة الوزراء البريطانية تيرزا ماي بأن أي عضو من العائلة الحاكمة لن تطأ قدماه الأراضي الروسية، لمساندة المنتخب الإنكليزي لكرة القدم في المنافسات المقامة هنالك. هذه المقاطعة الدبلوماسية جاءت بعد الأزمة السياسية التي عصفت بالعلاقات البريطانية الروسية مؤخرا، على خلفية اتهام الأخيرة بتسميم جاسوس روسي مزدوج بغاز الاعصاب على الاراضي البريطانية، بل حتى المنظمات الدولية تستغل الأحداث الرياضية الكبرى كي تبعث رسائل سياسية، تؤكد فيها على أهدافها في تحقيق السلم والتضامن الدولي الذي أنشئت من أجل تحقيقه.
فعلى هامش المونديال الحالي المقام في روسيا وفي مشهد نادر، ارتدى أعضاء مجلس الأمن الدولي قمصان منتخبات بلادهم المشاركة في كأس العالم، وتحولت قاعة المجلس إلى ملعب تبارى فيه الأعضاء في كرة القدم، بينما لعب الأمين العام للامم المتحدة أنطونيو غوتيريش دور الحكم. أما بخصوص المونديال الحالي فنستطيع أن نقرأ مدى استثمار موسكو السياسي على الصعيدين الداخلي والخارجي في الحدث، وهو العنصر الذي دفعهم لإنفاق مبلغ 13 مليار دولار لتحديث البنى التحتية في روسيا، خصوصا في المدن التي تستضيف الألعاب وعددها 11 مدينة، على الرغم من المصاعب الاقتصادية التي تواجها، ما دفع بعض المراقبين للتساؤل عن مدى حاجة الرئيس الروسي بوتين للمونديال، لكن الرسائل السياسية تبدو واضحة من الحدث. فرمزية المكان كان فيها استثمار واضح، حيث مدينة ويستيد وملعب لوجنيكي الذي شُيد في منتصف خمسينيات القرن المنصرم، وهي المدينة نفسها التي جرت فيها الألعاب الأولمبية في عام 1980، أي أننا أمام عملية تذكير بالحقبة السوفييتية التي كان الرئيس بوتين أحد القادة الذين ولدوا من رحمها، الذي أكد عدة مرات بأن اندثارها كان أكبر انهيار كارثي في القرن العشرين. وهنا يقول أحد الخبراء السياسيين الروس بأن المونديال يعني بالنسبة لبوتين قوة عظمى، والاتحاد السوفييتي كان قوة عظمى بسبب الرياضة، وبوتين يؤمن بهذه الفكرة حتى اليوم، على حد قوله.
هنا نجد الرسالة السياسية موجهة للداخل والخارج معا. فعلى الصعيد الداخلي يعرف بوتين بأن شعبه مازال بحاجة ماسة الى جرعات فخر، يواجه بها الشعور بالنظرة الدونية التي ينظر بها الغرب إليه منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. وإلى الخارج يريد الرئيس أن يقول بأن روسيا الوريث الشرعي لتلك الحقبة، التي احتفل الغرب بأنهيارها، وأنها يمكن أن تعود إلى المنظومة الدولية بثوب جديد.
كما أن بوتين ومنذ عدة سنوات شاع انطباع في العالم بأنه يستخدم العنف منهجا سياسيا في العلاقات الدولية. وقد استخدم هذا الاسلوب في جورجيا وأوكرانيا وسوريا، ثم جاءت شبهة استخدام غاز السارين لقتل الجاسوس الروسي على الأراضي البريطانية، لتولد شعورا بأن روسيا دولة غير موثوقة، وأنها تتجاوز الخطوط الحمر في العلاقات الدولية. وقد انعكس هذا في الحضور الدولي للافتتاح، حيث اقتصر الحضور على زعماء دول غالبيتهم من المواليين لروسيا. هنا يجد الرئيس بأن الحدث الرياضي المقام حاليا على الاراضي الروسية، فرصة تاريخية لتلميع صورته، وإعطاء صورة حضارية عن روسيا، والتركيز على قواها الناعمة في تغيير هذا الانطباع، وكسر الأفكار التي يروج لها الإعلام الغربي. وهذا ما ذهبت اليه صحيفة «موسكو تايم» التي كتبت أن «الرئيس بوتين يريد تجميل وجه روسيا الى الخارج من خلال الرياضة».
في حين أن بوتين نفسه دعا الزوار إلى «التعرف على ثقافتنا الاستثنائية وتاريخنا الفريد، والالتقاء بشعب صادق وودود» في خطاب الافتتاح. قد لا يكون قادرا على إحداث خرق في منظومة الزعامات الغربية في هذا الجانب، لكنه يراهن على الرأي العام الشعبي، خاصة المواطنين الامريكين والصينيين والكوريين الجنوبيين، لنقل تصور إيجابي عن روسيا حين عودتهم الى بلادهم، التي تشير الإحصاءات إلى أنهم مشترو بطاقات المونديال الأكثر عددا. ومع ذلك فإن الظروف السياسية الحالية هي لمصلحة بوتين، حيث الأنظار بدأت تتجه إلى الكرملين لتحقيق توازن في منظومة العلاقات الدولية، بعد سلسلة من الإجراءات العدائية تجاه أوروبا ودول أخرى، التي قام بها الرئيس الامريكي ترامب، مثل الانسحاب من اتفاقية المناخ، وفرض الضرائب على الصناعات الأوروبية، والانسحاب من الاتفاق النووي الايراني، ما ولد شعورا بأن هنالك ظرفا دوليا غير ودي، دفع الاوروبيين للتوجه نحو روسيا لإقناع إيران بتوسيع الاتفاق النووي ليشمل حقولا أخرى.
إن أي فعاليات رياضية أو من مجالات أخرى ذات طابع عالمي تقام على الأراضي الروسية، خاصة في ظل مقاطعة دولية وعقوبات اقتصادية وسياسية، مهمة جدا للمواطن الروسي والرئيس معا. صحيح أن الاخير حصل في الانتخابات الاخيرة على نسبة 76 في المئة، وأثبت بأنه قادر على وضع بلده بندية على الخريطة الدولية من جديد، لكنه يعلم تماما أن الشعور بضياع الهوية التي يعانيها المواطن الروسي، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تفرض عليه صنع مناسبات وطنية تمنح مواطنيه شعورا بالفخر والعزة الوطنية والقومية. عندها يطرح الرأي العام الداخلي تساؤلا عمن الذي يقوم بذلك، ثم تأتي الإجابة من المصدر نفسه بأنه الزعيم، ما يضاف الى رصيده الشعبي المزيد.
إن كرة القدم لا تتدحرج في ملاعبها على العشب الاخضر وحسب، بل أثبت التاريخ بأنها تتدحرج وبفاعلية كبيرة في الاروقة السياسية أيضا، واستخدمت مرات عديدة كسلاح سياسي فعال. ففي عام 1980 قادت الولايات المتحدة حراكا سياسيا لمقاطعة الالعاب الاولمبية في موسكو، احتجاجا على تدخل الاخيرة في أفغانستان. وفي عام 1984 قاطعت الدول المحسوبة على المعسكر الاشتراكي الألعاب الاولمبية التي أقيمت في لوس أنجليس الامريكية.
باحث سياسي عراقي