أسباب هجرة مسيحيي العراق ، ومن كان روادها الأوائل ؟
الحكيم البابلي
الحوار المتمدن-العدد: 3765 - 2012 / 6 / 21 - 17:23
المحور: الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
يقول السيد المسيح : كل بيت ينقسم على نفسه يسقط .
في مقالي ( اللعنة التي تُلاحق العراقيين ) سألني أحد المعلقين الكرام ، السيد ( عبد الصاحب الموسوي ) عن أسباب هجرة مسيحيي العراق ومتى بدأت تأريخياً ؟ ، ولأن الإجابة على شقي السؤال تأخذ أكثر من ( الف حرف ) المخصصة للتعليقات والردود ، لِذا وَعَدْتُ الأخ الموسوي بكتابة مقال حول موضوع السؤال الذي طرحه من خلال تعليقه الإستفساري المهم .
كتعريف للهجرة أسجل هنا تعريفاً حديثاً إقتبستهُ من مقال للسيد ( نبيل شانو ) يقول فيه : (( الهجرة بمفهومها العام هي هروب من واقع يُشَكِلُ عِبئاً على صاحبه )) . وأراني أتفق جداً مع هذا التعريف الذي يحوي المعنى الكثير في الكلام القليل .
لو حاولنا الكتابة بتفصيل وإسهاب ودقة عن ألأسباب الكاملة التأريخية لهجرة مسيحيي العراق لما كفانا كتاب من الف صفحة !، لكن سنحاول الإختصار والإيجاز في هذا البحث المتواضع قدر الإمكان .
هجرة الإنسان بصورة عامة من المكان الجغرافي الذي وُلد فيه كانت معروفة منذ أقدم العصور التي وعى فيها بشر على تواجده حياتياً قبل ملايين السنين ، وصحيحٌ أن العلماء لم يُقرروا بعد وبصورة قاطعة عن موطن الإنسان الأقدم ، ولكن كل الباحثين والعلماء والإختصاصيين يقولون أن حركة الهجرة بدأت منذ أقدم العصور التأريخية إلى أن وصلت إلى كل القارات المعروفة اليوم ، ولا زالت على أشدها وخاصةً بعد تطور وسائل النقل تكنلوجياً وقطع المسافات الجغرافية عبر القارة الواحدة أو القارات بمدد زمنية كانت خيالاً وحلماً للإنسان سابقاً !.
حتماً أن لهجرة المسيحيين من العراق أسباب عديدة ومختلفة سنسلسلها ونتطرق لها لاحقاً ، لكن يبقى السبب الرئيسي والأول والأكثر خطورة هو السبب الديني والقومي !، ولا يفوتنا أن بعض عرب عراق اليوم أنفسهم كانوا من المهاجرين لبلاد ما بين النهرين والشام وغيرهما منذ عصور قديمة تسبق الإسلام ، كهجرة قبائل ( بكر ومضر وربيعة وسليم وطيئ وأياد وتغلب …. الخ ) ، ثم لحقتهم القبائل الأخرى الكثيرة وبحركة شبه شاملة في صدر الإسلام ، وبغض النظر عن الأسباب المحمدية فنزوح العرب من جزيرتهم يعتبر هجرة جماعية أيضاً من أجل حياة أفضل مما كان متوفراً في الجزيرة العربية المتصحرة .
المسيحية في العراق - ومنذ الغزو الإسلامي - كانت مضطهدة ومحاصرة ومقموعة وتعيش تحت ظل سيف الإسلام الذي اُشهِرَ في وجهها بمناسبة أو غير مناسبة ، ونرى أنه يوم وطأت سنابك خيول جيش الإسلام أرض العراق كان تعداد سكان العراق يومذاك سبعة ملايين نسمة .. ويُقال تسعة !، غالبيتهم كانت تؤمن بالدين المسيحي ، فماذا حدث لتلك الملايين ياترى ؟!! هل تبخرت !، أم أُبيدت عن بكرة أبيها مثلاً !، أم ماذا ؟ ، والصحيح أنها إرتضت الحلول أو الخيارات الثلاثة المتاحة لها يومذاك ، وهي :
أولاً : القتال حتى الموت أو الدخول قسراً في الدين الإسلامي والذي تقول الكتب في وصفهِ ( أفواجاً أفواجا ) !!، وهذا ما فعله ( غالبية ) المسيحيين يومذاك ، كونه أسهل الحلول وأكثرها حفاظاً على حياة الناس وكراماتهم والبقاء في أرضهم ، ويُختصر في كلمتين : ( أسلم تسلم ) !!، وتم إعتبار كل الداخلين في الإسلام موالي للقبائل الإسلامية وشبه عبيد لها - علوج - رغم إسلامهم !، وبتقادم الزمن أصبح هؤلاء الموالي يحملون أسماء القبائل التي إنتموا لها بعشوائية قسرية أو كانوا تحت حمايتها ، وهذه الخيارات الظالمة أو الخطة المحمدية أتت أكلها في تعريب وأسلمة أغلب المجتمعات الشرقية التي غزاها الإسلام بقوة السيف ، لهذا نستطيع أن نقول وبكل ثقة أن أكثر من ثمانين أو تسعين بالمئة من عرب العراق اليوم وخاصةً في جنوبه ، هم من أصول وجذور عراقية ربما تكون سومرية ، كلدانية ، سريانية ، آشورية ، مندائية ، أو هجينة بسبب كل التداخل والتمازج بين شعوب المنطقة وكل من غزا العراق عبر عدة آلاف من السنين ، وما هم بعرب أقحاح كما يتصورون أو يتهيأ لهم !!.
الخيار الثاني كان في البقاء على الدين المسيحي والقومية غير العربية .. لكن مع دفع الجزية والعيش تحت هيمنة وقمع وتسلط المسلمين المتواصل تأريخياً والمتمثل في بعض فقرات "العهدة العمرية" أو كلها أحياناً ، وبحسب مد وجزر أخلاقية وإنسانية الحاكم المسلم !.
أما الخيار الثالث فكان في الهرب والنزوح إلى شمال العراق حيث كانت الطبيعة الجبلية الوعرة والجغرافية والمناخ يُشكلون للنازحين الهاربين من بطش الإسلام نوعاً من الحماية غير متوفرة في الوسط والجنوب ، علماً أن شمال العراق كان موطناً ومعقلاً للمسيحية منذ ظهورها الأول ، وكان ذلك الهرب والنزوح يمثل أولى بدايات الهجرة ( الداخلية ) بسبب الدين والقومية .
أسباب الهجرة قد تكون طوعية أو قسرية ، ومن أهم الأسباب التي نستطيع تسجيلها على شكل نقاط هي :
* العامل الديني والقومي .
* العامل الإقتصادي .
* العامل السياسي .
* العامل الثقافي .
* الطموح وحب المغامرة والتغيير .
* السعي خلف الحريات الشخصية المتوافرة في الغرب .
* العامل الديني والقومي :
============
يقول الإمام علي : (( القرآن حمال أوجه )) ، ومعناها أن القرآن يحوي على آيات تناقض وتُعارض بعضها البعض بكل شراسة ومزاجية وإنتقائية حيرت كل الدارسين والعلماء والباحثين ! ، فهناك آيات -قليلة- فيها محبة وسلام وتآخي مع بقية الأديان ( الذميين وأهل الكتاب ) ورحمة بالبشر ، وفي نفس الوقت هناك آيات -كثيرة- تدعو إلى كل أنواع الكراهية وقتل المختلف والتحريض على بقية الأديان وإعتبار المسلم هو الكائن الوحيد الصالح الذي سيدخل الجنة !، وكل من ليس بمسلم يجب أن يكون مصيره الموت والفناء وجهنم وبئس المصير لأنه كافر !!. وغيرها الكثير من السلبيات التي لا يقبلها ضمير والتي يعرفها المؤيد والمعارض .
هذه المطاطية والتأرجح بين أقطاب الخير والشر في القرآن والتي ذكرها الإمام علي كانت دائماً تُعطي الحاكم المسلم -متى شاء- "الحق" والسبب والمرجعية والعذر للبطش بكل الأقوام غير المسلمة ، ولن يكون هناك من سيحاسبه لأنه يتبع الشريعة و"كلام الله" !!!!! ، لِذا نرى أن غالبية الحكام كانوا شريرين ومتعصبين وعنصريين ودمويين ، وأدت أعمالهم السلبية المستمدة والمؤيَدَة والمدعومة من النصوص والشريعة والأحاديث إلى مجازر وإنتهاكات وإستئصال جذري للكثير من الأقوام المسيحية على أرض العراق !، والحق أنه ومنذ الغزو الإسلامي للعراق لم تمر بضعة عقود بدون مجازر صغيرة أو كبيرة للأقوام المسيحية على الأرض العراقية ، وكلها مُدونة في كتب التأريخ وبكل التفاصيل الدقيقة القبيحة المؤلمة ، وإشترك في تأجيجها وتفعيلها والولوغ في دمائها الكل ، عرب وأكراد وتركمان وأتراك وفرس !، وكانت أكبرها وأشهرها ما سُمِيَ "بمذبحة الأرمن" 1915،
والتي أُطلق عليها تسمية (( الإبادة الجماعية )) لأول مرة في التأريخ .
ما لا يعرفه البعض هو أن نسبة 15 إلى 20% من ضحايا تلك المجزرة كانوا من الكلدان والسريان والآشوريين واليونان البنطيين !، وكان العدد الإجمالي للضحايا يُقدر بأكثر من مليون ونصف من المسيحيين !!، ولحد اللحظة لم تقم أية حكومة تركية بتقديم أي إعتذار أو إعتراف رسمي عالمي على ما فعله الترك وصنائعهم من مجازر دموية دينية وقومية بحق المسيحيين الشرقيين !، وينطبق على هذه النقطة بالذات قول ( كارليل ) : أعظم الأغلاط هي تلك التي ترى نفسك مُنزهاً عنها !.
ولمن يحب المعرفة عن ( مذابح الأرمن ) فعليه بكتابة هاتين الكلمتين عند العم الطيب كوكل .
وللتذكير فقط فقد كانت هناك عشرات من مجازر الإبادة لمسيحيي العراق وتركيا ، مثل مذابح سميل 1933، مذابح سيفو ، سعرت ، طور عابدين ، ديار بكر ، قرة باش ، برواري ، سنجار ، حكاري ، بوهتان ، وغيرها الكثير التي لو قرأها أي إنسان مُنصف ونصف حيادي لضجت دمائه في عروقه لما فيها من مظالم وبشاعة لم يتم فيها إستثناء أحد ، ويكفي أن نعرف أن نصف أعداد الشعب المسيحي تمت تصفيتهم جسدياً في العراق وتركيا وإيران وسوريا في القرنين الماضيين وكان في مقدمتهم أخوتنا الآشوريين ، وتقول كل الدراسات أن الصراع الديني في كل هذه المناطق كان صراعاً إستئصالياً بإمتياز !.
وللمقارنة … فإن ما حدث من غبن وإضطهاد ليهود العراق المسالمين -على سبيل المثال- لا يؤلف تأريخياً إلا واحد من مئة مما حدث لمسيحيي العراق !، ولكن كان لليهود العراقيين من يضع مظالمهم تحت المجهر الدولي ( الغرب وإسرائيل ) ، بينما لم يكن للمسيحيين الشرقيين من يُدافع عنهم إلا بصورة صورية وللإستهلاك السياسي الدولي فقط ( بروباكاندا ) ، فالغرب المسيحي معروف بحرصه على مصالحه من خلال سياساته ، ولا يهمه أمر مسيحيي العراق أو مسيحيي أية دولة أخرى ، وما حدث لمسيحيي العراق من عدم إكتراث غربي بعد الإحتلال الأميركي أكبر شاهد على ما أقول !.
في الأزمنة السابقة ولحد المئة سنة المنصرمة -تقريباً- لم يكن بإمكان المسيحيين الهجرة على شكل جماعات من العراق إلى بعض الدول المسيحية الغربية ، ولكن بتطور التكنلوجيا والعلوم وطرق المواصلات وإختراع أدوات النقل السريعة كالسيارة والطائرة والبواخر والقطارات السريعة ، بدأت هجرة المسيحيين تأخذ الطابع الجماعي والعائلي بعد أن كان فردياً أو مقتصراً على الرجال وبعض المغامرين ، لهذا نرى أن الهجرة الجماعية والتي يغلب عليها طابع العائلة بدأت تقريباً مع بداية القرن العشرين .
ويمكن أن نلاحظ نشاط هجرة المسيحيين منذ بداية الستينيات في العراق ، أي بعد مقتل الزعيم عبد الكريم قاسم وإستلام القوميين العرب والبعثيين -بصورة متداخلة ومتعاقبة وفوضوية- مقاليد السلطة ، وخاصة في زمن الموتور المشير عبد السلام عارف المعروف بنزعاته وصرعاته القومية والدينية والشوفينية ومقولتهِ الشهيرة في إحدى خطبه الرعناء : (( لا حنا ولا ميخا ولا ججو بعد اليوم ، ولا ببسي ولا مِشن ولا سفن آب )) !! كونها مشروبات غازية مستوردة من البلاد الأجنبية المسيحية ، وربما نسى المشير الفطير أن حتى لباسه الداخلي كان مصنوعاً في البلاد المسيحية أو البوذية الآسيوية !! ، وبعد خطبة الغباء والضحالة تلك راح أغلب الشعب العراقي يسميه ( حجي مِشِن ) ومشن كان نوع من أنواع المرطبات الغازية مثل الببسي والكوكا كولا !.
أما في زمن الرئيس ( الخِركة ) الذي لا يحل ولا يربط ( أحمد حسن البكر ) فقد طلعت علينا الحكومة "الوطنية" ببدعة تجنيد كل القسس المسيحيين في قوات الجيش العراقي !!، وكان ذلك تحرشاً سافراً وإعتداءً لئيماً ومؤلماً لكل مسيحيي العراق !. ، ويبقى السؤال مطروحاً : هل كانت الحكومة والوطن بحاجة حقاً لخدمات بضعة قسس ورهبان يومذاك !!؟ ، أم هو طبع العقرب ؟ .
بعدها وتحت راية القائد المؤمن ( سيف العرب ) طلع علينا المتخلف بالله ( خير الله طلفاح ) خال صدام ووالد زوجته ( سجودة ) بكل أنواع الدينيات والطائفيات والشوفينيات الشهيرة المضحكة ، ومنها قوله : ( أن من لم يعتقد أن الجنس العربي هو الأفضل فهو شعوبي آثم ) !!!. ويبقى المسيحي العراقي يتأرجح بين كل هؤلاء الحكام المعوقين ، ولهذا كان خيار ( الهجرة ) سلاحاً ذو حدين لمن عشق الوطن العراقي ولكن اُرغم على تركه حفاظاً على كيانه كإنسان !.
يقول ( باولو كويلو ) : حكيمٌ من يستطيع تغيير وضعه عندما يُجبَر على ذلك .
تزايدت الهجرة أثناء الحرب العراقية الإيرانية ، وإشتدت أيام الحصار الإقتصادي الغاشم على شعب العراق وليس على حكومته ، والذي فرضتهُ الأمم المتحدة لمدة ( 15 ) عاماً مات خلالها آلاف مؤلفة الأطفال والكبار من العراقيين الأبرياء ، ولم يُرفع ذلك الحصار اللئيم إلا بعد الإحتلال الأميركي للعراق عام ( 2003 م ) .
إستعرت الهجرة تماماً خلال حروب الخليج ، وبلغت أوجها وإنفجارها البركاني منذ الأحتلال الأميركي للعراق ، ووصلت إلى أخطر مراحلها بعد تأسيس الحكومات الطائفية المعممة العقل والسلوك والأخلاق في العراق ، وإنفلات المليشيات الشعبية الفوضوية الغبية من عقالها والبدأ في قتل وتفجير وإستئصال وتفخيخ وسلب العراقيين بصورة عامة والمسيحيين بصورة خاصة في بغداد وأغلب المحافظات ، مع إستعمالهم كرهائن لإبتزاز المبالغ الكبيرة من الأموال من أهاليهم وعوائلهم والإصرار على قتلهم في أغلب الحالات ، حتى القسس والكهنة والمطارين والمصلين لم يسلموا من القتل والإستهداف المخطط له بكل وقاحة وعلنية تقول لنا بأنها وقاحة ما كانت ستأخذ حريتها لولا صمت وتستر الحكومة عليها وتأييدها لها !! ، وما حادثة مذبحة كنيسة سيدة النجاة إلا لطخة عار أبدية في جبين كل المنظمات الدينية الإسلامية وكل رجال الحكومة الفاسدة المتسترة على حالة الغابة والمستنقع النتن التي وصل لهما العراق في زمن وصل فيه الآخرون إلى إكتشاف الكواكب والمجرات البعيدة .
وعندما يتفشى الجهل في المجتمعات المتأخرة علمياً وحضارياً يقوم العقل المؤدلج بإستغلال الدين والخرافة والعقيدة والقومية ليكونوا أداة تفرقة بين مواطن وآخر !!، وهذا برأيي أشد فتكاً بالمجتمعات من كل الأمراض المعدية المعروفة !. وكما تقول الأغنية : فللصبر حدود ، وقد صدأت عواطف المسيحيين العراقيين تجاه الكثير من مواطنيهم المسلمين ، فحين يُذل ويُرهَبُ ويُستأصلُ الإنسان في وطنه فلن يبقى له كثير خيار إلا في الهرب والهجرة وترديد قول الشاعر جبران خليل جبران :
لا السهلُ والوديانُ والجبلُ ===== وطني ، ولا الأنهارُ والسُبلُ
كلا ، ولا الأطلالُ ، بل وطني : ===== الناسُ ، ما قالوا وما فعلوا
ولا ننسى قول ( ملتون ) : حيث تكون الحرية … فهناك وطنْ !!.
كل ذلك ومئات غيرها من الأسباب أدت إلى هرب وهجرة غالبية المسيحيين إلى شمال العراق ومنه إلى بعض دول الجوار مثل سوريا والأردن ولبنان وتركيا ، حيث نال بعضهم الموافقة على اللجوء إلى دول الغرب بينما الغالبية ينتظرون كالشحاذين على بوابات سفارات الغرب الذي كانت سياساته النفعية الأنانية الرعناء ومصالحه القذرة المغمسة في دماء العراقيين واحدة من أسباب هجرة المسيحيين وتفريغ الشرق منهم في مؤامرة كبيرة ستنكشف خطوطها وأسبابها عاجلاً أو آجلاً .
بعض الأقوام في العراق -في الأزمنة الحديثة- كانت مضطهدة أما طائفياً كالشيعة أو قومياً كالأكراد ، ولكن كان المسيحي يتحمل إضطهاداً مزدوجاً .. دينياً وقومياً ، وأحياناً كان يُضاف له الإضطهاد السياسي ليصبح ثالوثاً مرعباً لم يسلم منه أي مسيحي في العراق ، وكما هو معروف فإن أول من إنتمى للحزب الشيوعي العراقي كان المسيحيين واليهود والأكراد والصابئة والأرمن والمسلمين الذين كانت لهم أسبابهم الخاصة ، لِذا كان المسيحي يعتبر في نظر القوميين والبعثيين والأخوان المسلمين شيوعي حتماً "حتى وإن لم ينتمي" !!، وليس بحاجة إلى إثباتات وإدانات وإعترافات وتعذيب !! ، وكان هذا واضحاً جداً بعد مقتل الزعيم عبد الكريم قاسم ، حين راحت فصائل وشراذم الحرس القومي -سيئ الصيت- تُمشط المحلات والبيوت كالذئاب وتقرأ أسماء أرباب العوائل المعلقة في قطع خشبية على جانب باب الدار الخارجية - تقاليد بغدادية ربما بطلت اليوم - ، وكلما كان هناك إسم مسيحي أو كردي أو أرمني أو غريب عن المسميات العربية كانوا يُداهمون البيت ويعتقلون الرجال الذين في داخله بعد أن ترسخ في أدمغتهم أن أغلب من ليس مسلماً أو عربياً فهو شيوعي !!، وقد ذهب ضحية تلك الفوضى العشوائية الغبية الشوفينية الكثير جداً من الأبرياء الذين لم يكونوا سياسيين أبداً !، وكما يقول المثل العراقي الشهير : ( علما تثبت نفسك حصيني يروح جلدك للدباغ ) !.
الكثير من المسلمين الطيبين العادلين والمحبين للوطن العراقي كانوا يحمون جيرانهم المسيحيين -وقبلهم اليهود- من كل إعتداء يقع في الجيرة أو المحلة أو موقع العمل وحتى في الباص أو الشارع أحياناً ، ولكن نسبة الجهلة والدينيين المشعوذين والحاقدين كان ولا يزال كبيراً جداً ، وأغلب هؤلاء كان من الممكن تأليبهم وتحريضهم وتعبئتهم خلال نصف ساعة بخطبة أو هوسة شعبية جاهلة أو رجل دين معمم ناقص الشخصية يدعو إلى أذية المختلف !!، لِذا كان المسيحي يعيش حالة الإغتراب والإنذار والتوجس الدائم ، وكان يتوقع الإعتداء عليه في أية لحظة أو موقف أو مكان أو مناسبة ، ويكفي أن أسجل هنا أن 90٪ من المعارك والمشاجرات بالكلام والأيدي التي خضناها في العراق كانت لأسباب دينية لم نبدأها نحنُ حتى ولو لمرة واحدة ، وبدأت بالنسبة لي منذ سن السابعة حين ذهبتُ للمدرسة لأول مرة في منطقة سبع قصور في الكرادة الشرقية ، حيثُ لم يكن هناك مسيحي في كل المدرسة غير نبيل أخي الأكبر مني وأنا وطالب آخر كان إسمه ( وليد ميجر ) وهو الأن مغترب في أميركا .
أما المشاكل والمعارك والآلام والإحباطات التي تحملناها وواجهناها وصمدنا لها في تلك المدرسة خلال عدة سنوات فتحتاج إلى مقال خاص لتسجيل كل ذكرياتها الحزينة . ومن أقبحها أن الطلاب المسلمين وبصورة شبه عامة وفي كل المدارس والسنين الدراسية كانوا يتغامزون ويتهامسون ويُعيروننا ويدعون أن كل مسيحي هو قواد على عائلته وإننا نمارس الجنس مع أمهاتنا وأخواتنا ليلة رأس السنة !!! ولحد اليوم لم أفهم .. لماذا ليلة رأس السنة فقط !، ولماذا لا نمارس هذا الجنس كل أيام السنة ؟ ، رواسب متخلفة للأسف كانت تدل على نوعية المجتمع الذي فُرض علينا او ربما الأصح فُرضنا عليه ، ولهذا كانت هجرتنا سهلة على الكثير مِنا ، وهذا مؤلم ايضاً !!.
بإختصار … فقدنا في تلك المدرسة الكثير من السلام النفسي في دواخلنا ، وإضطرتنا الظروف إلى أن ندافع عن أنفسنا بكل ضراوة وما نملك من حيلة وقوة ولوقت طويل ، إلى أن كسبنا صداقة وإحترام ( بعض ) الطلاب الذين إضطرتهم صلابتنا وعنادنا إلى إحترامنا والوقوف إلى جانبنا أحياناً !! ، والظاهر أن ذلك المجتمع المدرسي الصغير لم يكن يحترم إلا منطق القوة ، وكان ذلك تواصلاً حتمياً مع المجتمع الأكبر تسلسلاً الذي كان يتألف من أهالي هؤلاء الطلبة ، وهم بالتالي جزء من المجتمع الإسلامي الكبير في العراق الذي رضع العنف وقمع المختلف والشعور بالفخار والعنجهية من التعاليم والشرائع والنصوص الإسلامية المُشجعة والمُحرضة على أمور سيئة ومغلوطة كهذه !. والوحيدين الذين فلتوا من تلك التعاليم الإعتدائية كانوا مِن مَن لم يُمارس شعائر الدين الإسلامي بجدية وإنظباطية السلفي ، أو من الذين كانوا من عوائل طيبة نهتهم عن الشر وعلمت أولادها الأخلاق قبل الديانة !. وهذه حقائق يعرفها أغلب المسلمين -السيئ منهم والجيد- لكن بعضهم لا يُجاهر أو يعترف بها ربما مكابرةً !.
كان في حياتنا الكثير جداً من المسلمين الطيبين الذين لم نسمع منهم كلمة مُخدشة واحدة طوال حياتنا في العراق ، وكان منهم أصدقاء الصبا والجيرة الطيبة والعمل الشريف : أياد وسهاد بابان ، فرات وسردار داوود سلمان ، علي الشبيبي ، أكرم الراوي ، مؤيد علي عبد الرحمن ، مازن لطفي ، جعفر ….. ، علي عبد الله ، وغيرهم وغيرهم ، لهم كل الحب والتقدير ودوام الخير والموفقية ، وكما يقول هادي العلوي البغدادي : ( سلامٌ على أهل الحق أينما كانوا وبأي لسانٍ نطقوا ) .
في أغلب الأحيان كان حتى المعلم أو المدير أو الشرطي أو رب العمل أو رجل الشارع يقفون جميعاً مع المسلم ضد المسيحي في حالة أي شجار أو نزاع أو حتى نقاش ساخن أو أي شيئ يتعلق بالحق والحقوق ، وبطريقة (( أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً )) ! ، ونادراً ما رأينا مسلماً يقف على بعد أو مسافة واحدة بين مسلم ومسيحي ، ولكوني شخصياً وأخي الراحل نبيل لم نكن نسكت على ضيم أو إعتداء أو محاولة لسلب حقوقنا وكرامتنا ، لِذا كانت حياتنا مليئة بالمعارك الصغيرة والكبيرة دفاعاً عن حقوقنا ، أحياناً كُنا نخسر المعركة بسبب حجم المعتدي الأكبر مِنا عمراً ، أو الأقوى مِنا جسداً ، أو لكثرة عدد الخصوم الذين كانوا في أغلب الأحيان يُهاجموننا كقطيع من الذئاب ، قساةً أجلافاً لا يعرفون معنى الرحمة ، بينما كُنا نعفو عن من كان أضعف مِنا جسداً أو أقل مِنا جرأةً وقوة ، ويوم كبرنا وبدأنا نقرأ ، وجدنا أن ما كان في أخلاقنا وطبيعتنا من رحمة مسجلً في حكمة للإمام علي يقول فيها : (( العفو عند المقدرة )) !! ، وبصراحة تامة أتمنى أن لا تجرح البعض … نادراً ما رأيتُ مسلماً يُطبق هذه الحكمة الإنسانية البليغة !!. بل كان ( أغلبهم ) يفتِكون ويُنكِلون بكل من هو أضعف منهم ، ربما لسد حاجة نفسية أو عقدة إجتماعية متأصلة أو إحساس بدونية مدمرة !!.
كان ( الفحل ) في مفهومهم العام هو الصبي أو الشاب الذي يقف في القمة منتصراً وبغض النظر عن الوسيلة حتى لو كانت قذرة ومُعيبة وغادرة !، أي ( ميكافيلية ) حقيقية ، وبعض العوائل كانت تتمادى في مفهومها للفحولة ، وتقوم بإرسال أولادها المراهقين ليلاً للسرقة من الجيران أو المحلة أو المحلات القريبة والبعيدة ، ولم يكن بعضهم بحاجة مادية لتلك المسروقات ! ، بل كانوا بحاجة بائسة لإثبات رجولة وفحولة أولادهم المحروسين ، ولم يكن يقف حائلاً بينهم وبين عقدهم تلك دين أو عرف أو عيب أو قانون أو أخلاق !!، لهذا عُرف ( بعض ) الشعب العراقي ( بالنهيبة والفرهود والسلب الرخيص ) في كل المرات التي اُتيحت له الفرصة حين يضعف القانون أو تُغلس الحكومة وتشيح وجهها تعمداً عن القباحة والخباثة !، وهذا ما حدث بالضبط أيام ( الفرهود ) ليهود العراق المسالمين الذين كانوا ضحية الحكومة والشعب العراقي وإسرائيل معاً !.
بعض تلك الأعمال هي نفسها التي كان يقوم بها البدو الأعراب المتصحرين قبل وبعد الجاهلية ولحد اليوم ؟ والبعض مستعد أن يتخلى عن شرفه وضميره وأخلاقه قبل التخلي عن الجِني البدوي الشرير الذي يركبه !. وسُنة الصحراء كانت دائماً تقول : "الحلال ما حل باليد" !.
في المدرسة والشارع لا أتذكر إننا إنحنينا لأحد ، والحق هذا لم يكن حال غالبية المسيحيين ، حيث كنتُ أستشف من خلال كلام بعضهم وتبريره لسكوته وخنوعه والقبول بالأهانة أو حتى الإعتداء بالضرب نوعاً من القبول التأريخي الشرقي بسخافة وخرافة "المقدر والمكتوب" !، وإن هذا هو قدرنا وحظنا ويتوجب علينا التعايش مع ما هو موجود على أرض الواقع ، وبالنسبة لي كان هذا أمراً مُحزناً وخطيراً جداً ، أن يصل بعضنا إلى حالة الإنكسار ثم اليأس والإستسلام والقبول بالمظلمة والمكفخة على أساس أنها واقع لا نستطيع له رداً !، ، وكان الكثير من المسيحيين الذين أعرفهم يحلمون دائماً بحكم ديمقراطي عادل يُنصفهم قدر الإمكان ، وكانت أمنياتهم كبيرة وشبه مُقنعة لهم ، ولا يزال
بعضهم يعيش على أمل تلك الأحلام والتمنيات السرابية الخادعة ، وما عرفوا بأن "التمنيات هي رأس مالِ المُفلسين" !.
أمورٌ مُحبطة جارحة ومؤلمة كثيرة وعلى مر السنين والأعوام خلقت عدم موازنة نفسية عند غالبية المسيحيين ، نتج عنها حالة تخنيث وتدجين وكسر شكيمة ونفسية ومعنوية بالنسبة للكثيرين !، وبالتقادم وَلَدَت كل تلك المشاعر بالإستسلام للقوة الغاشمة وفقدان الشعور بالثقة بالنفس وتحمل الذل والمهانة إلى هجرات جماعية من أجل أن يستعيد هؤلاء الناس مشاعرهم برجولتهم وكرامتهم وعزة أنفسهم وكونهم بشراً يتساوون في الحقوق والواجبات مع بقية المواطنين الذين يجاورونهم ويشتركون معهم في نفس الأرض والنهر والأشجار والسماء والسراء والضراء داخل مجتمع هادئ صحي طبيعي متحضر لا يدعو الرجل لإثبات رجولته عن طريق العنتريات والإعتداء على حقوق بقية البشر !!.
ما لم يفهمه مواطنونا من الأخوة المسلمين لحد اللحظة هو أن الشجاعة والرجولة والفحولة تكمن في إستنهاض الضعف في دواخلنا ومن ثم الصمود والوقوف على أقدامنا تجاه التحديات ، وليست في أن نستنهض قوانا على الضعيف أو الذي تحت رحمتنا !!. ولكن .... من سيستمع ؟
وتستمر هجرة أبناء الرافدين بصمت وحزن وأسى وكأن لِسان حالهم يقول :
إذا ضاقت ديارك فأجل عنها ======= وخل الدار تنعى من بناها
فإنكَ واجدٌ أرضاً بأرضٍ ======== ونفسك غير موجودٍ سواها .
كذلك كان يتم تخوين المسيحي العراقي بدون أسباب منطقية معقولة ، ويؤخذ بجريرة غيره أبداً !، وأغلبنا يعرف قصة العراقي المسيحي ( منير روفا ) تولد بغداد ( 1934- 2000 ) ، وهو مسيحي كلداني وإبن خالة ( طارق عزيز ) وشقيق زوجته .
كان ( منير روفا ) طياراً في القوة الجوية العراقية برتبة نقيب ، وفي سنة ( 1966 ) هرب بطائرته ( ميك 21 الروسية الصنع ) إلى إسرائيل التي قامت مع أميركا بتفكيك الطائرة الروسية ودراستها فنياً وهندسياً لأنها كانت طائرة متفوقة على ما للأميركان والفرنسيين من طائرات حربية قاذفة ومقاتلة يومذاك ، وكانت عملية ناجحة من تخطيط الموساد الإسرائيلي أُطلق عليها تسمية ( 007 ) !.
بعد تلك الحادثة أصبح كل مسيحي عراقي خائن وعميل وجاسوس ورتل خامس وإبن قحبة أيضاً !!، والمؤلم في كل الموضوع أن مسيحي واحد خان الوطن العراقي ، ولكن هل بالإمكان حقاً حساب عدد المسلمين الذين خانوا الوطن العراقي منذ أيام منير روفا ولحد الأن ؟ هل بإمكان أي قارئ أن يُعطينا رقماً ولو قريباً من الحقيقة المُذهلة لكل الخيانات التي دمرت العراق على أيدي مسلميه ؟.
وحول قضية منير روفا ومسيحيي العراق ينطبق المثل العراقي القائل : (( مكروهة وجابت بنية )) !.