حراك في البصرة العراقية ومحاولة لقراءة ما يجري؟
د. مثنى عبدالله
Jul 17, 2018
إنها البصرة ثالث أكبر المدن العراقية، والمنفذ العراقي الوحيد إلى البحر، وينبوع ثروته النفطية، حيث تنج حوالي 80% من إجمالي صادرات العراق النفطية، واحتياطها ما يعادل 65 مليار برميل نفط. وهي إحدى الحواضر العربية الإسلامية، التي كانت ذات شأن كبير في كل العصور والأزمان التي مرت على المنطقة.
فيها ولدت وتمددت مدارس فقهية وفلسفية ولغوية، وبرزت منها أسماء لامعة، لكنها اليوم تعيش في ظلام دامس كما كل العراق. تظاهرات فيها واعتصامات منذ عدة أيام، وقطع طرق استراتيجية وغلق منافذ حدودية، واقتحام دوائر وشركات نفطية، وقتلى وجرحى ومعتقلون. فما الذي يحدث في البصرة؟
منذ عام 2003 وحتى اليوم لم يُبن فيها شارع جديد، على الرغم من كل الموارد الضخمة التي تضخها في ميزانية الدولة. وباتت تحت سيطرة جهات عديدة، عشائر متنفذة ومجاميع مسلحة وميليشيات حزبية وعصابات جريمة منظمة. ولأن المدينة بئر العراق النفطية وميناءه الوحيد، فقد تقاطعت كل هذه الإرادات على ساحتها لهدف واحد وهو الاثراء، من خلال سرقة النفط الخام وتصديره لحساب هذه الفئات. وكذلك السيطرة على أرصفة الميناء والتحكم بالعائدات المالية التي تتوفر من خلال عمليات الاستيراد والتصدير، بل قامت أغلب هذه المجاميع بنصب سيطرات على الطريق الواصل من والى الميناء، لابتزاز التجار الذين ينقلون بضائعهم منه وإليه وفرض الاتاوات عليهم. كل هذا يحدث والسلطة المركزية غائبة تماما عن المشهد، بينما الحكومة المحلية في المحافظة مُشاركة في كل الذي يحصل. وعلى الرغم من أن المدينة فيها مشاريع ومصانع استراتيجية كبرى، كمصنع البتروكيماويات والحديد والصلب ومعمل الورق ومعامل ومصانع أخرى، لكنها جميعا معطلة عن العمل منذ عام 2003 ما حرم المدينة من موارد مهمة. كما فاقم من نسبة البطالة بين السكان التي وصلت إلى 40%، والفقر إلى نسبة 16% من عدد السكان البالغ أكثر من 3 ملايين نسمة، حسب أحدث تقرير صادر عن الأمم المتحدة.
وفي حين تستثمر العديد من الشركات النفطية الأجنبية في حقول نفط البصرة، لكن نسبة العمالة المحلية فيها تكاد تكون معدومة، حيث أن واقع المدينة المُسيطر عليه من قبل الجماعات المسلحة، أعطى انطباعا للشركات الاجنبية بأن العمالة المحلية مُسيّرة من قبل هذه الجماعات، وبالتالي باتت تخشى أستخدام المواطنين للعمل لديها من أن تتعرض لعمليات أبتزاز مادي، فعُرف الشركات العالمية يمنع أستخدام الايدي العاملة في الاوساط التي تسيطر عليها المافيات والمسلحين. مضافا إلى ذلك الضغوط التي تتعرض لها من قبل الميليشيات لغلق مواقعها والتوقف عن العمل في المناسبات الدينية التي تمتد في بعض الاحيان لايام طويلة. في حين أن عقد عمل هذه الشركات محكوم بزمن محدد. كما أن أتجاه بعض العشائر نحو تطبيق عُرفها على الشركات بدفع الدية في حالة تعرض العامل المحلي لحادث ما، كان سببا مُضافا لعزوف الشركات عن الايدي العاملة المحلية.
ولو نظرنا إلى الظروف الجوية والبيئية التي تعيشها المدينة، كسبب من أسباب الغضب الجماهيري الاخير، فإنها حالة أزلية وليست جديدة على المحافظة. فدرجات الحرارة المرتفعة والغبار وملوحة المياه كلها بسبب الموقع الجغرافي للمدينة. لكن المستحدث في هذا الوضع الذي جعلها لا تطاق، هو تفاقم هذه الظروف وترافقها مع أوضاع اجتماعية بائسة، وانعدام أي فعل من قبل السلطات المحلية والمركزية لتخفيف العبء عن كاهل المواطنين. صحيح أن ملوحة المياه كانت موجودة، لكنها ازدادت بسبب الاهمال الحكومي، فقضت على المزارع والبساتين التي كانت مصدر عيش الكثير من الناس. كما بات الماء الصافي الواصل إلى دور المواطنين يحوي نسبة ملوحة هي نفسها نسبة ملوحة البحر، بسبب توقف محطات التحلية عن العمل بارتفاع ملوحة المياه. أما التلوث البيئي فقد أحدثته أطنان النفايات الكيماوية التي تلقيها المصانع الايرانية في شط العرب ومياه البزل من الضفة الاخرى، يضاف إليها قيام العصابات المسلحة بتخريب الكثير من أنابيب النفط بهدف السرقة، وبالتالي تدفق الكثير من النفط الخام والغاز فيغمر الاراضي. وفي ظل كل هذه الظروف بات أمرا مُحيّرا إن لم ينتفض العراقيون في هذه المدينة، وأن يحتجوا على الظروف البائسة التي يعيشونها، لأن من المستحيل الصمت على ذلك. لذا فإن أحداث البصرة هي حالة صحية. السؤال الان هو هل حقا الحكومة قادرة على نزع فتيل هذا الحراك؟ وهل رئيس الوزراء قادر على الايفاء بوعوده التي قطعها اليوم، بتوسيع وتسريع آفاق الاستثمار للبناء في قطاعات السكن والمدارس والخدمات، وإطلاق درجات وظيفية وتخصيصات مالية، حسب بيان الحكومة؟
إن سلطة الحكومة هي في أضعف حالاتها في البصرة منذ زمن طويل، في ظل سيطرة تامة على كل مرافق المحافظة من قبل أحزاب، ظاهرها سياسي وباطنها إجرامي. كما أن الحراك يأتي متزامنا مع مشاكل كبيرة على نتائج الانتخابات المزيفة، وأن رئيس الوزراء بات غير قادر على إقالة محافظ المدينة، أو حل مجلس المحافظة، لأنه رئيس حكومة تصريف أعمال، وليس لديه الصدارة في الانتخابات الاخيرة. كما أن شروط البنك الدولي بعدم استحداث وظائف ومشاريع مقابل القروض التي قدمها، تقف عائقا أمامه للوفاء بوعوده التي قطعها للمحتجين، وهذا هو سبب عدم سريان الهدوء بعد زيارته لها، بل على العكس فقد امتدت إلى محافظات اخرى. وحتى لو تجاوز شروط البنك الدولي وأقدم على ضخ الأموال في المشاريع والوظائف في البصرة، فإنه سيضع نفسه وحكومته في مرمى سكان محافظات أخرى تمر بالظروف والمآسي نفسها مثل الموصل، التي مازال أهلها يعيشون تحت ركام المدينة المدمرة منذ عام.
السؤال الآخر الذي يمكن أن يُطرح في هذه الازمة، هو هل العامل الايراني مُغمض العينين عما يجري على حدوده؟ يقينا لا. فإيران قطعت تجهيز الكهرباء عن البصرة، التي يستوردها العراق بأمواله عشية تصاعد الحرب الاقتصادية الامريكية عليها، في حين أنه حليفها ومن المنطقي أن يقف الحليف مع حليفه في الظروف الصعبة، لا أن يسكب الزيت على النار، لكن طهران تريد أن تستثمر الوضع الراهن في المحافظة للضغط لترجيح كفة سياسية على أخرى. فالعراق ورقة سياسية رابحة في يدها تحاول استخدامها في تطورات الوضع مع واشنطن على حساب العراقيين. وهي ترى في رئيس الوزراء الحالي حليفا لهم، وتعلم أن أدوات التهدئة التي في يده أقل بكثير من التحدي الذي يواجهه في البصرة، لذا لابد من استثمار الوضع لصالحها.
السيناريو المقبل هو امتداد التظاهرات إلى العاصمة، وربما سيقوم المتظاهرون بإغلاق وزارات ودوائر الدولة ومنع الموظفين من مزاولة أعمالهم، على غرار ما تم فعله في البصرة والنجف من إغلاق الطرق والمؤسسات والشركات والمنافذ الحدودية. ويبقى السؤال الكبير، لماذا لا تتخذ المرجعية الدينية موقفا حاسما لصالح المتظاهرين، كموقفها في موضوع الجهاد الكفائي؟
باحث سياسي عراقي