الإرادة العراقية… الكذبة الكبرى
د. مثنى عبدالله
Aug 28, 2018
منذ فجر ذلك النهار الوحشي من عام 2003، حين غزت الولايات المتحدة وبريطانيا العراق وحتى اليوم، ونحن نسمع عن الإرادة العراقية المستقلة، التي لم يعد أحد لم يتاجر بها. حتى الغزاة أنفسهم استثمروا فيها فقالوا أن الغزو والاحتلال جاء لتحقيق تلك الإرادة، بينما الكل يعرف معنى الغزو وماهية الاحتلال.
وعندما شكلوا مجلس الحكم العراقي في 12 يوليو/تموز 2003، قالوا بأنه يمثل الإرادة العراقية المستقلة، على الرغم من أن الحاكم المدني الامريكي بول بريمر أعترف في مذكراته، بأنه ساق أعضاء ذلك المجلس من العملاء العراقيين بسوط الإرادة الأمريكية، كي يشكل بهم تلك الهيئة القبيحة. حتى إيران التي شاركت الغزاة في احتلال العراق، كانت زعاماتها الدينية والعسكرية والمدنية، تؤكد على أن الحكومة العراقية ذات إرادة مستقلة، على الرغم من أنها تسيطر على العراق وتتواجد في بنية العملية السياسية فيه، ولديها دُمى عديدة تتراقص على المسرح السياسي مُسبّحة بحمدها.
واليوم وفي خضم السعي المحموم لتشكيل الحكومة العراقية الجديدة، بعد انتخابات حصل فيها تزوير تاريخي، تنطلق أصوات الساسة جميعا، سنة وشيعة وأكرادا، للقول بأن حراكهم ليس بضغط من أحد، وأن الحكومة ستتشكل بإرادة عراقية خالصة. فهذا قيادي في تحالف (المحور الوطني) السُني يقول بأنهم «لا يخضعون للضغوط في تشكيل الحكومة المقبلة». ونائب عن ائتلاف (دولة القانون) الشيعي بزعامة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي يقول بأن «الحكومة المقبلة ستتشكل بإرادة عراقية خالصة» مشددا على «عدم السماح بأي تدخل خارجي لتشكيلها». وعمار الحكيم ومقتدى الصدر وحيدر العبادي وزعماء الحزبين الكرديين الديمقراطي والاتحاد الوطني والزعامات السُنية، كلهم يقولون بأن تشكيل الحكومة سيكون بإرادة وطنية مستقلة لم يسبق لها مثيل.
إذن علام يتواجد ممثل الرئيس الأمريكي في التحالف الدولي ضد الإرهاب بريت ماكغورك في بغداد؟ ولماذا التقى كل الزعامات السياسية في البلاد وحثهم على تشكيل الحكومة؟ فهل يُمثل الرجل الإرادة الأمريكية أم العراقية؟ ولماذا تواجد الجنرال قاسم سليماني زعيم فيلق القدس الإيراني هنالك أيضا؟ ألا يُمثل الإرادة الايرانية؟ ولماذا يتحرك السفيران الامريكي دوغلاس سيليمان، والإيراني إيرج مسجدي في الأروقة الخلفية للمنطقة الخضراء، حيث مقرات الحكومة والبرلمان وسكن الزعماء السياسيين بعيدا عن الأنظار؟
لقد فات هؤلاء الادعياء المتشدقين بكذبة الإرادة العراقية المستقلة، بأن هذه لم تعد موجودة على أرض الواقع إطلاقا. وأن القرار الوطني العراقي غادر عقل وضمير كل الذين قبلوا بالعملية السياسية، بغض النظر عمن اعتبر نفسه مُعارضا من داخلها أو مواليا لها. لأن كل القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في الساحة العراقية تنظر إليهم على أنهم مجرد دمى لها، وأنهم يفتقرون تماما إلى الحاضنة الشعبية المؤيدة لهم. وبالتالي فإن كل شؤون العراق والعراقيين باتت تسير وفق إرادات خارجية تمثل مصالح الاخرين. ولعل الموقف الحكومي الرسمي الاخير، ومواقف الاحزاب والميليشيات من موضوع العقوبات الامريكية الجديدة على إيران، يشير وبصورة واضحة إلى المكانة التي آلت اليها الارادة العراقية والقرار الوطني المستقل، ومكانة إرادات الاخرين في المشهد العراقي.
لقد مزق هذا الموقف كل الأغطية التي تغطى بها الساسة العراقيون، وتركهم عراة أمام كل من تأخر لديه الوعي السياسي، ولم يفهم حقيقتهم، لاسباب طائفية أو عرقية، أو ربما شخصية، ناتجة عن تجربة سياسية سابقة ظلمتهم. ففي الوقت الذي ما برح فيه رئيس الوزراء يصرح، وفي كل مناسبة، بسياسة النأي بالنفس عن الصراع الدائر بين واشنطن وطهران، والرياض وطهران، وقف مُصرّحا وبكلام عربي واضح ومبين عن موقف العراق من العقوبات على طهران، بأنها «خطأ جوهري واستراتيجي وغير صحيحة، لكن سنلتزم بها لحماية مصالح شعبنا. لا نتفاعل معها ولا نتعاطف معها لكن سنلتزم بها»، على حد تصريحه. عاد بعد بضعة أيام ليقول وبالوضوح نفسه «لم أقل إننا نلتزم بالعقوبات الأمريكية، بل قلت نلتزم بعدم التعامل بالدولار في التعاملات مع إيران، لأنه لا يمكن التعامل بهذه العملة إلا بموافقة البنك المركزي الامريكي».
ولو بحثنا في المساحة السياسية المتحركة بين التصريح الاول ونقيضه، لوجدنا أن الارادة الايرانية أطلت برأسها من خلال ميليشياتها وأحزابها وممثل الولي الفقيه الايراني في العراق، لملء هذه المساحة. كلهم كانوا يُجاهرون وليس همسا بأن الارادة العراقية لم تعد موجودة، حتى لو كان المتحدث بها من نسيجهم السياسي والطائفي والعقائدي نفسه. لان هذه الإرادة خط أحمر لا يمكن العودة للتعامل بها. لانها تعني رفض السياسات الايرانية العدوانية على العراق والأمة. كما تعني عودة هذا البلد إلى لعب دوره المحوري على الساحات العربية والإقليمية والدولية. كما تعني استقلالية السياسة النفطية والمواقف الدينية والفكرية من التبعية الاجبارية إلى طهران. فالعراق في الاجندة الايرانية ليس لبنان أو سورية أو اليمن، هو يعني لها أكثر من أربعة ملايين برميل نفط يوميا، ويعني مرجعية النجف الدينية، والطريق الواصل إلى البحر المتوسط عبر سوريا.
هذه هي العقدة التي دفعت طهران لمد أذرعها في العراق، لإصدار بيانات شديدة اللهجة تستنكر ما صرح به رئيس السلطة التنفيذية، حتى لم يعد هنالك حزب صغير أو كبير، ولا ميليشيا مسلحة أو مجرد عصابة خطف وتسليب، إلا وشجبت تصريحات رئيس الوزراء، بل ذهب البعض منهم إلى الاستخفاف به وبموقعه. ثم جاء بيان ممثل الولي الفقيه علي الخامنئي الايراني في العراق، تتويجا لكل المواقف الأخرى، ومُحمّلا بطاقة عدائية كبرى فقال «تصريحات العبادي لا تنسجم مع الوفاء لمواقف إيران المشرفة ودماء الشهداء دفاعا عن العراق»، «مواقف العبادي تعبر عن انهزامه النفسي تجاه أمريكا». وفورا انتقل رئيس الوزراء المتشدق بالإرادة العراقية المستقلة، والحريص على تحقيق مصالح شعبه على حد قوله، إلى العودة للعب دور بندقية مؤجرة على الكتف الايراني. فهل بعد كل هذا التقافز اللامنطقي يمكن الحديث عن إرادة وطنية مستقلة؟
علم السياسة يقول إن القرار الوطني المستقل لا يستقيم في ظل غياب الدولة، ولا يمكن أن ينمو ويصبح فاعلا في دولة عبارة عن شكل ومسرح للخلافات والفساد وليست سلطة، بل السلطة فيه موزعة في أكثر من مكان وليست موجودة فيه. وهذا ينطبق حرفيا على العراق، حيث هنالك انفصام كبير بين حقيقة ممارسة السلطة والشكل الخارجي للدولة. هنالك جهاز للدولة قائم لكن السلطة موزعة بين قوى إقليمية ودولية، وهنالك وزراء ونواب ومناصب سيادية عليا ودنيا، لكن من فيها هم مندوبون لمن يملكون السلطة الحقيقية فيه. وكل القرارات تأتي من الضامن الخارجي.
باحث سياسي عراقي