العراق… انتفاضة لتنظيف الجحيم الارضي؟
هيفاء زنكنة
Sep 04, 2018
■ خلافا لما أشاعته الحكومة العراقية، لم يعد المتظاهرون والمعتصمون منذ شهر حزيران ـ يونيو، في مدينة البصرة، جنوب العراق، إلى بيوتهم بعد انحسار موجة الحر أو بعد ان تعبوا من النوم في اماكن الاعتصام. بل بقي المعتصمون، واستمر المتظاهرون، وبقيت مطالبهم الاساسية، التي تشكل قاعدة هرم حقوق الانسان واحتياجاته اليومية، ملحة ليس لأنها تشكل قيمة انسانية لا يفهمها الفاسدون من الحكام، بل لأنها، أيضا، حقوق مشروعة، في ملكية الثروة الوطنية العامة لواحد من بلدان النفط الغنية، بالعالم، الذي وصلت استهانة الحكومة به حد حرمان سكانه من المياه الصالحة للشرب. حرمان مستمر يؤدي، يوميا، إلى زيادة عدد المصابين بالتسمم وامراض المياه الملوثة، بأنواعها، حتى تجاوزت الآلاف، وان أصرت وزيرة الصحة، في ردها على المتظاهرين، بانهم يبالغون في رسم الصورة وان «هناك 1500 حالة تسمم واسهال، فقط، في المستشفيات»! ولم نسمع من الوزيرة بعد عن منع الكويت، استيراد وحظر المواد الغذائية من العراق، اضافة إلى منع المسافرين العراقيين من الدخول للكويت «كإجراء احتزازي بسبب انتشار مرض الكوليرا في العراق». وكانت مفوضية حقوق الانسان قد حذرت، في الاسبوع الماضي، من انتشار مرض الكوليرا في البصرة نتيجة زيادة الملوحة والتلوث المائي.
هذه التطورات دفعت المتظاهرين إلى اتخاذ خطوات جديدة، بعد ان ادركوا ان لا جدوى من الاعتصام امام مركز المحافظة الذي يضم اعضاء فاسدين، وأمام مكاتب الاحزاب، التي تضم اعضاء فاسدين. وبعد ان ادركوا عبثية الاصغاء إلى وعود الساسة وهم أساس الفساد، أو النواب وممثليهم، وهم جزء من تشكيلة الفساد المستشرية من قمة النظام إلى أصغر موظف فيه.
أدرك المتظاهرون، ان مطالبة الفاسدين بوضع حد للفساد، يعني، عمليا، مطالبة الفاسدين بالتخلص من أنفسهم، فكيف يحدث ذلك؟.لذلك، قرروا، بعد اسابيع من المظاهرات ومحاولة الاحزاب الهيمنة عليها، كما فعلت مع مظاهرات ساحة التحرير، ببغداد، بقطع الطرق الرئيسية، وآخرها قطع طريق رئيسي في منطقة كرمة علي بالبصرة، لمنع الشاحنات من عبور الحدود. والاعتصام، وهذا هو الاهم، امام المدخل الرئيسي لحقل نهر بن عمر النفطي، والتهديد باقتحام الحقل النفطي إذا لم ترد الحكومة على مطالبهم. يبين التهديد مدى اليأس من الوعود الحكومية خاصة فيما يتعلق بخريجي هندسة ومعاهد النفط العاطلين عن العمل في بلاد النفط. حيث يساهم قطاع النفط بـ 65٪ من إجمالي الناتج المحلي حالياً، إلاّ أن عدد العاملين به لا يتجاوز 1٪ من العدد الكلي للقوى العاملة في البلاد، حسب تقرير الامم المتحدة. وهذه طامة كبرى يحاول المسؤولون طمرها لئلا يمسوا مصالح الشركات الاجنبية.
إن الوضع الحالي الذي يعيشه المواطنون، في ارجاء العراق، وليس البصرة وحدها، مأساوي في تفاصيله التي تتطلب حلولا آنية سريعة بالاضافة إلى التخطيط الاستراتيجي. فنقص مياه الشرب بحاجة إلى علاج فوري لانقاذ حياة الناس، عموما، والاطفال والحوامل، بشكل خاص. وايجاد فرص عمل للشباب ليس مستحيلا، فيما لو توفرت النية الصادقة، وأكتفى الساسة بسرقة خمسين ٪ من الثروة النفطية، فقط، بدلا من بلعها كلها، وأبقوا النصف للاستثمار الاستراتيجي والتنمية، مما سيؤدي إلى توفير العمل للخريجين.
من الناحية البيئية، يشكل نقص الماء والكهرباء وبقية الخدمات الاساسية، اعراض موت بيئي بطيء يعيشه البلد، منذ عقود، جراء الحروب وسنوات الحصار والغزو الانكلو ـ أمريكي وتخريب «الدولة الإسلامية»، وقصف «قوات التحالف»، المدن بحجة تحريرها، الامر الذي سبب تدمير البنية التحتية واختلاط مياه المجاري بمياه الانهار.
وتشير تقارير الامم المتحدة حول البيئة إلى ان 30٪ من الأسر، فقط، موصولة مع شبكة الصرف الصحي العامة، فيما تلجأ بقية الأسر إما إلى استخدام خزانات الصرف الصحي (40٪) أو المجاري المغطاة للتخلص من الفضلات.
ولاتزال مخلفات الحرب السامة، بلا تنظيف، بل وتشهد البيئة تدفق مستويات عالية من الإشعاع والمواد السامة الأخرى. وتبين تقارير علمية عديدة ان استخدام أسلحة اليورانيوم المنضب، وهو معدن ثقيل مشع وسام، من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، خلال حربي 1991 و2003، وأطلاقه في أكثر من 1100 موقع، بما في ذلك في المناطق المكتظة بالسكان، لايزال واحدا من الاسباب الرئيسية في زيادة نسب الاصابة بامراض السرطان وولادة الاجنة المشوهة، على الرغم من الانكار الأمريكي والصمت الرسمي العراقي المتواطئ معه.
تذكر بعض التقارير ان تعرض بيئة العراق لضرر كبير ناجم عن السياسات الخاطئة للحكومة بشأن السكان وإدارة الموارد، بينما الاصح الذي تختار التقارير عدم ذكره هو ان الحكومات العراقية المتعاقبة منذ الغزو عام 2003 لم يكن همها، اطلاقا، الاهتمام او التخطيط او وضع سياسة حول البيئة، أو حتى الاهتمام بالشعب. همها الاول والاخير، كان ولايزال، هو نهب الاموال بأقصى سرعة ممكنة، وابقاء الشعب ضعيفا، بكل الطرق الممكنة، تستهلكه وتستنفد قواه الحاجات اليومية الملحة، لأنهم يعرفون جيدا، انه بمجرد ان يمتلك قواه الجسدية وقدرته على التفكير، سيثور عليهم ويقوم بتنظيف البيئة منهم.
تشير التقارير، أيضا، إلى إن سياسة الدول المجاورة في بناء سدود مخالفة للقوانين الدولية، كما فعلت تركيا، وسياسة إيران في تجفيف الانهار، مخالفة للقوانين الدولية، وشحة المياه هي احد اسباب مشكلة الملوحة والتصحر، الا ان ما لا تذكره هو الحاجة الماسة للتعامل السياسي الحكيم مع هذه السياسات، والتركيز عليها، لوحدها، يجب الا يعفي الحكومات العراقية من مسؤولية الفشل الهائل في الاهمال، وانعدام التخطيط، والانشغال بالفساد، والاكثر من ذلك كله التبعية السياسية لدول لا ترى في العراق غير ساحة لحل نزاعاتها. لذلك ليس عبثا ان تصف منظمة ادارة البيئة بالامم المتحدة العراق بأنه البلد الاكثر تلوثا بالعالم. ولأن الدول الخارجية المتنازعة لا تحتاج حلبات صراع، مكتظة بسكان، قد يسببون لها المشاكل، يبدو من المنطقي ابقاء العراق على حاله ملوثا، يموت سكانه ببطء وصمت وهم يعلمون «ان قضيتهم ستنسى»، حسب إيريك سولهايم، رئيس إدارة البيئة في الأمم المتحدة.
٭ كاتبة من العراق