المسيحيون مكوّن رئيسي في مجتمعاتنا العربية
منذ 14 ساعة
فايز رشيد
1
حجم الخط
تصريح يثير الانتباه ويلفت إليه النظر، ذلك الذي أدلى به مطران السريان الأرثوذكس في جبل لبنان جورج صليبا ومفاده «أن المسيحيين قد يختفون من العالم العربي، بسبب الأحداث التي تعصِف في أرجائه». مضيفا في حديث لوكالة «سبوتينك» أن المسيحيين في الشرق العربي، كانوا أكثر المتضررين من الأحداث الدامية التي عصفت بالمنطقة مؤخرا. وشدد على أن السكان المسيحيين في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين وبعض مناطق تركيا، اضطهدوا وهو ما تسبب بنزوح أعداد كبيرة منهم. ودعا إلى توفير الأمان في المنطقة بشكل يضمن عودة المسيحيين إلى ديارهم. ليسمح لنا نيافة المطران بمناقشته من خلال الحقائق التالية:
*أولا، إن الصراعات المذهبية والطائفية والإثنية، التي استهدفت تخريب أقطار كثيرة في وطننا العربي، من خلال إغراقه في صراعات جانبية، لتفتيته، طالت أبناء الدينين الإسلامي والمسيحي، ولم تقتصر على دين دون آخر، ولا إثنية دون أخرى. ولا بد أن نيافة المطران صليبا قرأ مخطط برنارد لويس لتقسيم العالمين العربي والإسلامي، وهو المخطط المُعلن منذ عقود، الذي تم إقراره رسميًا في الكونغرس الأمريكي عام 1983، ويُعد أصل مشروع وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس المسمى «الفوضى الخلاقة». ولويس مستشرق أمريكي الجنسية بريطاني الأصل، يهودي الديانة صهيوني الانتماء، كان أساس فكرته تفتيت كل دولة إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية، عن طريق دفع شعوب تلك الدول لتقاتل بعضها بعضا، ولو نظر المراقب إلى الأقطار العربية لوجد ذلك المخطط واضحا فى ليبيا وسوريا واليمن والعراق، وسيجده ينفذ أيضا في أفغانستان، والمحاولات تجري لتنفيذه في لبنان، وغيرها من الدول.
وبناء عليه تم إشعال حرب الخليج وضرب أفغانستان وزرع الفتن بين الشعوب العربية وتشجيع ما يسمى بـ «ثورات الربيع العربي»، التي صودرت نتائجها أمريكيا وصهيونيا وغربيا. ولو عرضنا بعضا من هذا المخطط المعلن والمدرج في ملفات الاستراتيجية الأمريكية، فسنجد أن الجزء الخاص بالعراق ينص على تفكيكه على أسس عرقية ودينية ومذهبية ليصبح كالتالي: دولة شيعية في الجنوب حول البصرة. دولة سنية في وسط العراق حول بغداد. دولة كردية في الشمال والشمال الشرقي حول الموصل. أما سوريا فالمخطط هدف لتقسيمها إلى دولة علوية شيعية على ساحل البحر المتوسط. دولة سنية في منطقة حلب. دولة سنية حول دمشق. دولة للدروز في الجولان. أما الجزء الخاص بدول الخليج العربي في هذا المخطط فهو مرعب، ولو نُفذ، لا سمح الله، فستضيع هوية بلدان الخليج بشكل كامل، كما يستهدفون في خططهم تقسيم مصر إلى دويلات صغيرة.
- اقتباس :
الظلم الممارس على الشعوب العربية، أيّاً كان مصدره، لا يفرق بين مسيحي ومسلم
*ثانيا، صحيح أن المواطنين المسيحيين قليلو العدد نسبيا (ولا نقول أقليّات) فهم مواطنون عربا أولا وأخيرا، بدا وكأن الضرر حلّ بهم أكثر من غيرهم، بسب قلة عددهم في المجتمعات العربية، لكن تنظيمات الإرهاب المتطرفة الأصولية، المدعومة من التحالف الصهيوأمريكي، الغربي، وبعض الإقليمي، وبعض العربي قامت بتهجير السكان مسلميهم ومسيحييهم من مناطقهم، وقامت بذبح العشرات من أبناء الدينين، وعالجت جرحاها في المستشفيات الإسرائيلية، وقد وصل الأمر بدولة الكيان الصهيوني، إلى إصدار قرار يتيح للمسيحيين العرب، اللجوء إليها، رغم أنها تمارس تمييزا عنصريا بشعا على سكانها الفلسطينيين العرب بمسيحييهم ومسلميهم، وكانت قد قسّمتهم منذ إنشائها إلى طوائف متعددة، في محاولة لتفريق كلمتهم.
*ثالثا، فلسطين يا نيافة المطران على مدى تاريخها، لم تشهد صراعا إسلاميا ـ مسيحيا على الإطلاق منذ العهدة العمرية في القدس أيام الخليفة العادل عمر بن الخطاب، الذي رفض الصلاة في كنيسة القيامة (التي تتوارث مفاتيحها حتى الآن عائلة مسلمة) خوفا من أن يأتي المسلمون ويطالبوا يوما ببناء مسجد في المكان الذي صلّى فيه عمر، منذ تلك الحقبة وحتى الآن. ولعلمك يا نيافة المطران، من أهم رموزنا الوطنية في المرحلة الحالية الأرشمندت عطاالله حنا والمطران هيلاريون كتوجي، عدا عن زعماء فصائلنا الفلسطينية الحالية من إخوتنا وأهلنا المسيحيين. ولعلنا نذكر بكل الفخر البابا شنودة، الذي منع الحج إلى القدس في زمن الاحتلال. أما إن عنيت يا نيافة المطران مقاطعة قوى ومؤسسات فلسطينية الأحد الماضي حفل استقبال بطريرك الروم الأرثوذكس كيوريوس ثيوفيليوس الثالث في ساحة كنيسة المهد، بمدينة بيت لحم جنوب الضفة الغربية المحتلة، فقد قاطعتها أيضا فرق الكشافة المسيحية والأعضاء المسيحيون في بلدية بيت لحم، وجمعيات وهيئات مسيحية أرثوذوكسية أخرى. ويتهم أبناء شعبنا بمسيحييه ومسلميه ثيوفيليوس بإبرام صفقات مشبوهة مع جهات اسرائيلية لبيع أو تأجير أوقاف وعقارات تابعة للكنيسة الأرثوذكسية. أتت المقاطعة على أساس وطني، وليس على أساس ديني. وللعلم جرى وتجري معاقبة الفلسطينيين المسلمين من سماسرة بيع الأراضي للصهاينة، وهؤلاء يلاحقهم القضاء الفلسطيني على جرائمهم، حتى أن البعض جرى قتلهم.
معروفة أهداف إشعال الصراعات المذهبية والطائفية في الأقطار العربية، وذلك لتغييب الصراع الرئيسي مع العدو الصهيوني. وأيضا فإنها تسهم بإلحاق أفدح الضرر بالقضايا العربية ككل، وبالاستحقاقات الشعبية العربية، كالديمقراطية على سبيل المثال لا الحصر، إلى جانب خلخلة النسيج الاجتماعي الداخلي للشعوب العربية في أقطارها، الأمر الذي يحتاج إلى سنوات طويلة لعودة هذه البلدان إلى ما كانت عليه قبل بدء الصراع فيها. إن الكثير من سياسيي الغرب ومفكريه، مثل بريجنسكي، هنتنغتون، كيسينجر وغيرهم، يؤكدون في كتاباتهم على ارتباط المسيحية العربية بالغرب، لذا فمن وجهة نظرهم فإن المسيحية في المشرق العربي، ظاهرة غريبة وينكرون عروبة المسيحية من خلال تغريبها وادعاء غربيتها، أو يحاولون تصويرها بأنها «دخيلة ومستوردة في البلاد العربية». بالمقابل، فإن جزءاً لا يستهان به من بعض الكتّاب والمحللين والأيديولوجيين العرب، إضافة إلى بعض الحركات الاسلامية المتطرفة، ترى مثل هذا الارتباط العضوي، وتؤكده.
في السياق نفسه، تجيء تصريحات غربية كثيرة تعمل على إقحام الدين بالسياسة، من خلال الدعوة إلى حماية المسيحيين العرب عبر تهجيرهم إلى الغرب. إن المسيحية هي إحدى الظواهر العربية، كما تبين الأحداث التاريخية، وأبحاث كثيرة، نشأت في فلسطين والمشرق العربي، ويسميها البعض بـ»النبتة الوطنية العربية التي ظهرت ونشأت في التربة الوطنية العربية» كما يقول جورج حداد، وفيما بعد تم نقل مركز القرار المسيحي إلى روما، في عهد الإمبراطورية الرومانية البيزنطية.
لا يستطيع أحد إنكار دور المسيحيين العرب في النهضة العربية، منذ القرن التاسع عشر وحتى اللحظة، ولا دورهم الأساسي في الحركة القومية العربية، ولا في الثقافة العربية: المفهوم الأشمل من العقيدة الدينية، ولا في الحضارة العربية، التي تعتمد على البنية المؤسسة في حياة الشعوب. وأيضاً في حركة التحرر الوطني العربية. بمعنى أن المسيحية هي إحدى البوتقات الأولى لظهور حركة القومية العربية. ورغم الاتفاق المطلق مع ما يصل إليه المفكر العربي جورج قرم في كتابه القيم «انفجار المشرق العربي»، عن استحالة كتابة التاريخ العربي من منظور الدولة القطرية، أيضاً، من الضروري التأكيد على أن بعض الاتجاهات الغربية وانطلاقاً من مبدأ (تغريب المسيحية في العالم العربي)، ترى أيضاً أن فلسطين هي قضية دينية، وفي الأساس قضية إسلامية الوجه ضد القضية اليهودية المدعومة لأسباب عقيدية من المسيحية. وفي الرد على هذا الادعاء وإنصافاً للحقيقة نقول: لقد شكّل المسيحيون العرب ما يقارب الـ 50% من عدد سكان مدينة القدس وفقاً لإحصائية 1922. وقد استشعر المسيحيون الخطر الصهيوني منذ نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين (كتابات الأب هنري لامنسي اليسوعي، كتاب نجيب العازوري بعنوان: يقظة الأمة العربية، صدر في باريس في عام 1905، الذي بين بوضوح حقيقة الصراع العربي الصهيوني. شارك المسيحيون العرب في كل الثورات الفلسطينية بدءاً من التظاهرات وصولاً إلى المقاومة المسلحة (ثورة البراق، والثورة الفلسطينية الكبرى). ولم تميز بريطانيا بين المناضلين المسلمين والمسيحيين. الظلم الممارس على الشعوب العربية، أيّاً كان مصدره، لا يفرق بين مسيحي ومسلم. والعنف المذهبي الطائفي لا يطال ديناً معيناً، بل يتناول كل الأديان، ويطال المذاهب المتعددة في الدين الواحد. المسيحيون العرب هم أصيلون في مجتمعاتنا العربية ومكوّن رئيسي منها. هم إخوتنا وأهلنا «فالدين لله، والوطن للجميع».
كاتب فلسطيني