البياتي والموت الذي يضرب ضحيته دون سبب!
رواد شعر التفعيلة هم الضمير الشعري الذي منح الأدب العربي المعاصر دفقًا جديدًا أثرى جوانبه وجدد دماءه.
الثلاثاء 2019/02/12
تتجدد الصداقة بتجدد المنافي
الجملة الشعرية عند البياتي تعتمد الأسلوب العنقودي
البياتي: غمرت الرؤية المتمردة كل المواضيع الشعرية التي كتبت فيها
بقلم: مصطفى عبدالله من بين المبدعين العرب الكبار الذبن قدر لي أن أقترب منهم، وتربطني بهم صداقة متينة تمتد لسنوات وسنوات جمعتني بالشاعر العراقي الكبير عبدالوهاب البياتي، وقد توطدت عراها بيننا إلى الحد الذي جعله يلبي دعوتي لزيارتي في بيتي بالقاهرة هو وابنته الصغرى "أسماء"، لقضاء يوم بطوله مع أسرتي، بينما أزوره أنا في شقته بمنفاه بمدريد، وأنا في طريقي للعلاج بمعهد باركير في برشلونة.
ولن أنسى أبدًا أنني، بعد أن أهديته أولى نسخ الكتاب الذي أعده الشاعر أحمد سويلم عنه، وكذا نسخة من ديوان الشاعر المصري عادل عزت "المتصوفون الشعراء في الزمن العصيب"، أهداني هو قصيدته "انتصار بور سعيد" التي يقول فيها:
على رخام الدهر، بورسعيد
قصيدة مكتوبة بالدم والحديد
كما لا يمكنني أن أنسى هذه الدهشة التي انتابتني عندما اتصلت به لأسأله: "ما الذي تحب أن أحضره لك من مصر وأنا قادم إليك في مدريد؟" فكان رده قاطعًا: لوحة من الخط العربي".
فلم أكن أتصور أن الشاعر الراحل - الذي، قدِّر عليه أن يعيش منفيًا في أوطان كثيرة - كان يجد في الخط أغلى هدية يمكن أن تأتيه من وطنه، لتظل تعيش معه في منفاه.
وتتجدد الصداقة بتجدد منافيه في: عمَّان ثم دمشق.
الكاتب مع الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي
من هنا كان من الطبيعي أن تغمرني هذه الفرحة الاستثناء في زمن الحزن المجتاح، لحظة وقوع عيني، وأنا أتجول في أروقة معرض للكتاب، على هذا العنوان "تجليات الشعرية عند عبدالوهاب البياتي" في جناح المجلس الأعلى للثقافة، ليكون أول كتاب أقتنيه من هذا المعرض.
الكتاب من تأليف الدكتور عبدالناصر حسن، الأستاذ بجامعة عين شمس الذي يرى أن مشاغل الناس إذا كانت قد تنوعت في عصر بدأت فيه الغلبة للأقمار، والإنترنت، والفضائيات، وإذا كان من الممكن للعلم أن يدعي احتكاره للحقيقة بشكل مطلق، يحل جميع قضايا الإنسان، المادية والمتيافيزيقية، فإنه ما يزال هنالك من يرى أن الشعر برؤيته يتخطى الآماد والأزمان، حيث لا يستطيع العلم، بمختلف آلياته المعقدة، الوصول إلى الآفاق التي يصل إليها الشعراء الأفذاذ.
فالشعر، كما يقول الفيلسوف هايدجر "هو تأسيس كلامي للوجود"، والعلاقة بين الشعر والوجود علاقة أبدية، ولقد كتب هولدرلن ملحوظته اللافتة هذه: "ما يبقى يؤسسه الشعراء".
وكذلك يؤمن عبدالناصر حسن بأن اكتشاف علة وجود الأشياء، أو نظام عام تسير في ركابه خصائص الرؤى التي تمتلكها التجربة الشعرية، هي مهام منوطة بالشعر، ومن أجل ذلك فعلى الشعراء توصيل رسالة الفن إلى المتلقي بطريقة تكسر العادة في تقبل القيم، ولكي يحقق الشاعر هذا الهدف فلا بد من أن يكون زاده الأساسي هو تجربته الخاصة، شريطة أن يكون شاعرًا أصيلًا، يمتلك القدرة على أن يعيد اكتشاف الأشياء، وإخراج المألوف منها في صيغة جديدة.
من أجل ذلك كان رواد شعر التفعيلة هم الضمير الشعري الذي منح الأدب العربي المعاصر دفقًا جديدًا أثرى جوانبه وجدد دماءه، وجعله أقرب إلى الواقع العربي في مآسيه وأحزانه المتكررة.
ولقد مثَّل كل من: نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وعبدالوهاب البياتي، وصلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي، وخليل حاوي، وأدونيس، والفيتوري، وغيرهم، هذا الجيل من الشعراء الرواد الذين حملوا مصير الإنسان العربي وقضاياه أمانة في أعناقهم، وعبَّروا عن مضامين فلسفية عانقت مصير الإنسان وصراعه مع البقاء، واتخذت من الموت والحياة رموزًا ووسائل فنية للتعبير عن قضايا المجتمع العربي المعاصر، وتجسيدها عبر صور شعرية رمزية معبرة.
الأسلوب العنقودي
ولقد أخذت قضايا المصير الإنساني بعدًا خاصًا لدى رواد الشعر الحر، سيما عند عبدالوهاب البياتي.
ولكن لماذا البياتي دون غيره؟
يجيب المؤلف بأن هناك عدة أسباب؛ أولها أن شعره "كان في كل الأوقات عبارة عن سؤال مقلق حول مصير الإنسان، وأسراره الأكثر نقاء، ورموزه، وأقداره، مدافعًا عن الإنسان ضد قوى الظلام المضاعفة التي تضايقه وتحاصره، محاولًا إنقاذ القيمة الفردية والجماعية الأكثر إيجابية" كما ذكر وليد غالب صالح. وذلك في عصر استغلت فيه قوى اجتماعية كثيرة خوف الإنسان من الموت في تشكيل وعيه بحيث يمكن استغلاله وابتزازه باسم الحياة الأخرى، وادعاء تحقيق السعادة الأبدية له.
وثاني هذه الأسباب أننا إذا سلمنا بتنوع الأساليب الشعرية المعاصرة إلى حسية، وحيوية، ودرامية، ورؤيوية، وتجريدية، فإن أقرب هذه الأساليب لرصد الحقيقة الإنسانية وتسجيل صراعها مع قضايا مثل قضية الحياة والموت هو الأسلوب الرؤيوي، الذي انتهجه البياتي.
والسبب الثالث أنه إذا كانت قضية الصراع بين الموت والحياة عند كثير من الشعراء في العصر الحديث، مثل أبي القاسم الشابي، أو بدر شاكر السياب، أو خليل حاوي، قد شكلت محورًا جوهرًا في أشعارهم، فإن البياتي هو الشاعر الوحيد الذي استطاع أن يجعل من الموت والحياة هاجسًا أصيلًا، يمتد في شعره بعمق ووعي شديدين.
فحول هذا الموضوع، الصراع مع الموت، يقول البياتي: "لقد غمرت الرؤية المتمردة كل المواضيع الشعرية التي كتبت فيها، فالموت المجاني الذي يضرب ضحيته دونما سبب مفهوم، ذلك الموت الذي كان أشد بروزًا في (أباريق مهشمة) لم يكن هناك بد من فهمه، وكان فهمه يعني التمرد عليه".
وفي دواوينه "المجد للأطفال والزيتون"، و"أشعار في المنفى"، و"عشرون قصيدة في برلين"، و"كلمات لا تموت"، كان الموت من أجل الحرية.
أما الجملة الشعرية عند البياتي، فهي جملة تعتمد الأسلوب العنقودي، كما قال هو نفسه: "معظم قصائدي تعتمد على الأسلوب العنقودي، أي أن القصيدة تتكون من مقاطع وعناقيد تصب كل منها في الأخرى، لتكون المحصلة النهائية هي القصيدة، لكن المقاطع فيها لن تكون هناك مفاتيح سحرية في نهاياتها، لأنها كانت أجزاء من قصيدة".
وربما يعمد البياتي إلى ترك المفاتيح السحرية، كما يسميها، في نهايات القصائد، لتصير القصيدة كلها عبارة عن جملة شعرية واحدة، وهي ما أسماها بالقصيدة القصيرة، وبدا هذا جليًا في ديوانه "بستان عائشة".
إن نظرة مدققة للمتن الشعري البياتي تؤكد أن محور جدلية الحياة والموت هو من المحاور الأصيلة المتجزرة في شعره، والتي جسَّد من خلالها تجربته العميقة في الحياة، وعير هذا الصراع الاستقطابي الحاد بين الحياة والموت تتكامل دلالات النصوص، بحيث تنتظم كل الخيوط المتنافرة والمتوافقة على رقعة هذا النص.
ولقد غمرت الرؤية المتمردة على المواضيع الشعرية التي كتب فيها البياتي، وإن كان لهذه الرؤية أهدافها الخاصة في كل مرحلة، على أن الانتصار للحياة ضد الموت، وللوعي ضد الجهل، وللنور ضد الظلام، بقى هو القاسم المشترك بين نصوص هذا الشاعر الباقي عبدالوهاب البياتي.
انتهى عرضي لكتاب الدكتور عبد الناصر حسن لتبدأ الإشارة إلى أن عبدالوهاب البياتى (1926 : 1999) لم يكن واحدًا من رواد قصيدة التفعيلة فحسب، بل كان في طليعة الحركة الشعرية العربية التي حملت على عاتقها عبء إرساء دعائم هذه القصيدة الجديدة، وارتادت أفق التحديث بذائقة خاصة في تشكيل النص الشعري العربي.
وعبر مسيرة حافلة بثرائها النوعي والكمي، امتدت قرابة نصف القرن (1950 : 1999)، تتابعت فيها دواوينه لتصل إلى اثنين وعشرين ديوانًا، تتسم بتفاوت وسائل التعبير، لتؤكد في جملتها على مشروعه الشعري اللافت في خارطة الشعرية الحديثة، بتقاطع الرؤيا الشعرية لديه بين الخاص والعام، والفردي والجماعي. ومن هنا كان حضور شعره البارز على المستويين العربي والعالمي، باعتباره معبرًا عن طموحات الوحدة والحرية والثورة والفقر والظلم الاجتماعي وغيرها من قضايا الإنسان العربي. ومن هنا أيضًا عاش البياتي منفيًا بين المدن، بعيدًا عن وطنه: بين: القاهرة، موسكو، مدريد، عمان، ودمشق.
وبوعي بجملة الحقائق السابقة جاءت دراسة الدكتور محمد مصطفى علي حسانين عن شعر البياتي وعنوانها "التشكيل الفني في شعر عبدالوهاب البياتي" التي نال بها درجة الماجستير بامتياز من كلية دار العلوم – فرع جامعة القاهرة بالفيوم، محاولة لإضاءة جوانب شعرية الشكل الفني لدي البياتي ترصدها بنياته المؤسَّسة وظواهره الفنية من خلال تلمس الأبعاد الجمالية وطرائق تأويلها في سياقيها؛ التاريخي والثقافي، من غير تركيز على بعض مراحل البياتي الشعرية دون الأخرى، ومن ثم تأتي أهمية هذه الدراسة التي تضع شعر البياتي تحت مجهر التحليل الأدبي ربما لأول مرة، بدءًا بباكورة دواوينه "ملائكة وشياطين" 1950، وحتى آخر دواوينه "نصوص شرقية" 1999.
وعلى الرغم من كثرة الدراسات التي تناولت شعر البياتي، شرقًا وغربًا، فإن هذه الدراسة الثالثة فقط بعد دراستين عنه في جامعات مصر، فكانت الدراسة الأولى في عام 1995 ونال عنها محمد عبدالغفار منجي درجة الماجستير من جامعة عين شمس وعنوانها "قضايا الإنسان المعاصر في شعر عبدالوهاب البياتي"، والثانية في الجامعة ذاتها ونال عنها تيسير سليمان جريكوس درجة الدكتوراه عام 1996 وكان موضوعها "بلاغة الصورة في شعر البياتي".
وربما تكون العلاقة الحميمة التي ربطتني بالشاعر الكبير عبدالوهاب البياتي هي التي دفعتني إلى هذه المتابعة وجعلتني حريصًا على الاقتراب من الدكتور محمد مصطفى حسانين وهو يتأهب لإعداد هذه الدراسة، وعندما تأكدت من جديته دعوته للقاء البياتي في آخر زياراته للقاهرة ضيفًا على معرض الكتاب، وأذكر أيضًا أنني قدمت محمد مصطفى إلى المستشرق الإسباني الكبير بيدرو مارتينث مونتابث هنا في القاهرة ، لكي أضيء له كيفية تلقي الإسبان لأشعار البياتي.
وعندما اطلعت على رسالته في صيغتها النهائية لمست غلبة الجانب التحليلي، وتوقفه الطويل أمام النصوص والظواهر في محاولة لإضاءة كثير من جوانب الإبهام والغموض في شعر البياتي.
وعبر فصول ثلاثة سعى الباحث نحو سبر أغوار شعرية الشكل فى طبقاته المتصاعدة عبر دوائره المتداخلة، وفيها يتجاور البحث في الإيقاع مع الدلالة صعودًا إلى فاعليات التناص.
وقد أهتم الباحث بتوضيح دور القصيدة العمودية في شعر البياتي باعتبارها الشكل الأول الذي اعتمد عليه البياتي، ولم يتخل عنه في دواوينه المتوالية، حتى وصلت نسبتها لديه (16.5%) من إجمالي قصائده، ويلحظ الباحث بوازنته أوزان هذه القصيدة لديه بمثيلاتها لدى شعراء أبوللو والشعراء العراقيين عن مغايرة البياتي لهم، بل وكأنه يسير عكس تراتبية أوزانهم.
ويكشف الباحث أن قصيدة التفعيلة التي كانت مهيمنة على شعره (70.5%) تدور فقط في فلك ستة أوزان ولعل هذا ما ادى إلى تقوقع قصيدته داخل قالب وزني واحد في أكثر من ديوان على فترات زمنية متتالية، وعبر متابعة البنية العروضية حدد الباحث خمس مراحل لتطور الإيقاع في شعره: الأولى هيمن فيها (الكامل) على ثلاثة دواوين، إلى أن ظهرت سطوة (الرجز) على دواوينه (الثمانية) التالية، ثم (الرمل) الذى اكتفى بديوانين، ليعود (الرجز) من جديد عبر ديوانين، إلى أن جاء (المتدارك) ليتحمل عبء قصائد الدواوين السبعة الأخيرة.
وقد لاحظ محمد مصطفى أنه كلما جاءت قصيدة البياتي على إيقاع الرجز تعددت صورها العروضية، في محاولة إيهام قارئه بالتخلي عن ضبط الإيقاع، في الوقت الذي نكتشف فيه سلامته عبر عدة وسائل منها: تناظر أطوال الأسطر.
ونلاحظ أن الجانب الدلالي في هذه الدراسة اختص ببحث ظواهر ثلاث بارزة في شعر البياتي لا تكاد تغفلها الذائقة الخبيرة؛ الأولى تتعلق باعتماده الواسع على أسلوب القناع الذي دعا إليه واسترفده من النقد الإنجليزي في كتابه "تجربتي الشعرية" 1968.
ولكن الباحث يدرج القناع في ظاهرة أشمل تقوم على دور الضمير وتحولاته في صناعة التشخيص الشعري، وتشكيل الذوات الرمزية بواسطة عدة تقنيات منها القناع والمرآة والشخصية الشعرية وغيرها من أنماط استخدمها البياتي ليرفد قصيدته ببعد موضوعي ودرامي ينأى بها عن البث المباشر والانفعالي الذي طغى على شعره في مراحله الأولى.
وتأتي الظاهرة الثانية لتؤكد على اعتماد البياتي الواضح على القصيدة القصيرة، خاصة في دواوينه الأخيرة. حيث يجري وفق متطلبات الرؤيا والتجربة ... (فالقصيدة القصيرة ليست مقول القول، بل إنها تبدأ بكلمة وتنتهى بكلمة تضئ الأولى) كما قال هو نفسه في واحد من حواراته، لذا يلاحظ تركيز الرؤيا الشعرية واستخدام أسلوب الاستدراك وخاصة بـ (لكن) لتكوين المفارقة داخل القصيدة القصيرة وعدم توقع ختامها المتعارض فبدت وكأنها تسير من الموضوع إلى نقيضه.
والظاهرة الثالثة ملأت الدنيا وشغلت الناس – كما يقال – بشعر البياتي، فأفاضت فيها البحوث والدراسات، فلا يكاد ناقد أو قارئ يغفل الإشارة إلى أهمية رمز عائشة فى نصوصه، وتحت عنوان "رمز عائشة: ثبات البنية وتعدد الدلالة" يقدم الباحث عرضًا لا يخلو من الإمتاع والاستقصاء معًا للعناصر الأسطورية العديدة المكونة لهذا الرمز وأبعاده الدالة على تعارضات الموت والحياة والخصب والجدب لتجسد "عائشة" أسطورة الانبعاث الحضاري العربي المرجو، إلى جوار تعبيرها عن وفرة من المعاني المعبرة عن جوهر الإبداع الشعري ومطلب الثورة و غيرها من الدلالات التي تؤكد على سر اكتنازها رمزيًا .
وقد جاء "التناص" – أطول فصول الدراسة – وأشدها إدهاشًا للقارئين العام والمتخصص، على حد سواء، بكشفه عن دور التراسل بين نصوصه ونصوص شعرية وأسطورية وتاريخية في بناء استعارات كلية تقف أحيانًا عن حد التمثيل أو تأخذ هيئة الرمز متعدد الدلالة، وذلك اعتمادًا على تقاطع البياتي مع نص سابق بأكمله أو تآزر عدة مصادر في تكوين الصورة.