صفحة مطوية من تاريخ بغداد.. كيف هدمت الدور والمباني لفتح شارع الرشيد
صفحة مطوية من تاريخ بغداد.. كيف هدمت الدور والمباني لفتح شارع الرشيد ؟
في الواقع أن مشروع فتح الشارع الجديد واجه عقبات عديدة,منها مسألة تعويض اصحاب الممتلكات, التي ستتعرض ممتلكاتهم للهدم لأعتراضها مسار الشارع, مما دفع الوالي حسين ناظم باشا الىتشكيل لجنة خاصة لهذا الأمر, وقد تكونت هذه اللجنة من عشرة أعضاء للنظر في تقدير قيمة التعويضات لنحو مائتي منزل سيتم هدمها كليا اوجزئيا,وقد أنتهت اللجنة من رفع تقريرها في حزيران 1910,
الوالي حسين ناظم باشا
الذي لم يرضَ الوالي بسبب ما تم تقديره من مبلغ كبير من قبل اللجنة, وبالرغم من طلبه اعادة النظر بتلك التقديرات. ألا أن اللجنة أصرت على تقديراتها رغبة منها في أفشال المشروع وجعله يبدو مستحيلاً من الناحية المالية, لأن الهدم سيطال منازل تعود لأقربائهم.
دفع اصرار اللجنة على قيمة التعويضات الوالي حسين ناظم باشا الى اعادة تشكيل تلك اللجنة وقام بتغير اربعة من اعضائها. حين قامت الاخيرة بتقدير قيمة التعويضات بنحو 98,000 ليرة عثمانية تعويض506 منزل, وافترضت في الوقت نفسه قيام اصحاب تلك الممتلكات بالتنازل عن 5% من قيمة تعويضهم كهدية للحكومة.
وفي وقتها أشار القنصل البريطاني لوريمر الى أن عمليات الهدم التي طالت الاملاك العامة بنحو كلي او جزئي جرت من دون مراعاة للقانون ولم تدفع التعويضات لهم.من بين الأبنية التي هدمت ستة محلات ومخزن تعود لشركة (بيت لنج), ومنزل احمد علي خان رئيس التجمع الهندي البريطاني في بغداد, ومنزل أبن شقيقته المدعو احمد علي خان, وحانوت يعود ملكيته الى السيد جي ثاودس(Mr.G.Thaddeus) وهومن الرعايا البريطانيين وكان يعمل محاسباً لدى المقيم البريطاني في بغداد. وعليه عندما اشيع بين الاهالي ان حكومة الولاية غير جادة في تعويضهم نظموا تظاهرة هتفوا فيها"هذي الگاع وما ننطيها وناظم باشا حاكم بيها". وفي الوقت الذي كان الوالي مستعجلاً في عملية تهديم البيوت لشق الشارع الجديد في بغداد مهما كلف الثمن.
وذكر السيد مصطفى نور الدين الواعظ :
انه في احد الأيام كان جالساً عند الوالي حسين ناظم باشا ودخل عليهما مأمور الوالي جواد بك واخبره بأن بعض الاهالي ناقمين عليه. سرعان ما ألتفت لي وقال: "أن اهل بغداد ألان تشتمني لكن سيأتي يوم من الزمن تقرأ على روحي الفاتحة".
كان للموقف البريطاني الرافض لهدم مبنى القنصلية , والعائق المالي المتمثل بتكاليف المشروع وتعويض اصحاب الاملاك, وعزل ناظم باشا من منصبه في اذار 1911, من الأسباب الرئيسية التي أدت الى تعثر مشروع الشارع الجديد والتوقف على المباشرة به في وقتها.
كانت الصعوبات التي واجهة الاستمرار في شق الشارع تعويض اصحاب الاملاك التي تهدم جزئيا او كليا, وبعض من الصعوبات الهندسية التي تمثلت بالتباين في مستويات الشارع حيث بلغ من متر الى ثلاثة امتار, وكان لمعارضة رجال الدين لفكرة هدم الاملاك الوقفية مثل سوق الحيدر خانة,وضعف الامكانيات المالية لولاية بغداد عاملاً مضافاً في ذلك. سيما أن الكثير من اهالي بغداد اعتقدوا أن الشارع قد تكون فوائده قليلة, فضلاً عدم تصديقهم بمشاريع الولاة, وفي الأخير تقع عواقبه على كاهلهم.
إستعانت بلدية بغداد بمهندسين فرنسيين لأجل حل مشكلة التباين في مستويات الشارع, اما مشكلة التعويضات تم الاتفاق مع اصحاب الاملاك على منح مبلغ اولي يعادل الايجار لسنة واحدة وان تدفع لهم بقية المبالغ بعد الحرب.
وذكر كامل الجادرجي بأن اخاه رئيس البلدية قد غادر بغداد قبيل سقوطها بيد البريطانيين الى الاستانة ومنها الى برلين بحجة الاطلاع على تنظيمات المدينة بصفته رئيساً لبلدية بغداد وتخلصاً من الوضع الذي نشأ من جراء فتح الشارع الجديد. ولم تعوض البلدية اصحاب الاملاك اموالاً نقدية بل اكتفت بإعطائهم سندات بقيت الى نهاية الحرب ديناً بذمتهم.
وأشارت وثائق الاحتلال البريطاني بأن اصحاب الاملاك المهدمة بعد الحرب العالمية الاولى طالبواِ أمانة العاصمة(بغداد) بالتعويضات, وأدعت الأخيرة بأنها غير مسؤولة عن تعويض مستحقاتهم, وأنهم لم يأمروا بشق الشارع, وأنها غير قادرة على دفع التعويضات بصورة عفوية, وأن ذلك يتطلب وقت طويل وان تلك التدابير يجب أن يعمل بها عن طريق اَصدار قانون وبأمر قضائي من المحكمة. وقد قدمت وزارة الداخلية مقترحاً الى مجلس الوزراء بتشكيل لجنة لدراسة المشكلة وتقديم تقريرها في موعد اقصاه19/تشرين الثاني/1925الى المحاكم لتكون معالجة تلك المشكلة بصوره ملائمة, وفي16/شباط/ 1926أرسلت وزارة العدل رسالة الى مجلس الوزراء أوضحت فيه انها ناقشت مع أمانة العاصمة مسألة التعويضات وأنها رفضت أي قانون يعيد الاراضي الى أصحابها وتعفى الأمانة من أي مسؤولية فيما يتعلق بدفع التعويضات الى أصحاب الاملاك. وأن افتتاح الشارع تم من قبل البلدية بأوامر عاجلة من قبل القائد العثماني خليل باشا. واعربت الوزارة عن أن الامانة غير قادرة على دفع تلك التعويضات.
واقترح مجلس الوزراء ان تقدم لهم معلومات فيما يتعلق بالمستندات الرسمية المعطاة لأصحاب العقارات عندما تم مصادرتها وقيمة المبالغ المقدرة لهم فأمر المجلس وزارة الداخلية على تشكيل لجنة لأعداد بيانات حول تلك العقارات التي تم أزالتها لافتتاح الشارع وتسجيل جميع المستمسكات الرسمية التي اعطيت لهم. وتم تشكيل اللجنة والتي بدورها قدمت القوائم المتعلقة بالعقارات المصادرة في(ابريل 1928). وبالرغم من تلك الاجراءات لم يتم تعويض اصحاب الاملاك.
وفي سنة 1932في عهد وزارة نوري السعيد الأولى صدر القانون رقم (52) المتعلق بمنع سماع الدعاوي المتعلقة بأستملاك الشارع العام, الذي تكون من أربعة مواد تضمنت المادة الاولى بمنع المحاكم من الاستماع الى الدعاوي المقامة ضد الحكومة أو أمانة العاصمة من قبل الأهالي التي صودرت املاكهم عند أفتتاح الشارع الجديد.
اما مشكلة هدم الاوقاف فقد تم هدم سوق الحيدرخانة ليلاً, بعد ان عجزت الإدارة العثمانية في ايجاد حلاً لها. وبعد تخطيط عرض الشارع واستقامته ولتثبيت المساحة التي سيشملها الهدم استعملت الحبال لتأشير تلك المساحات, وقام بعض من اصحاب الاملاك المشمولة بالتهديم بدفع الرشوة الى المشرفين على العمل لتقليل مساحة ما سيهدم من أملاكهم التي لا تدخل كل مساحتها ضمن خطة التهديم.
وذكر امين المميز بأن المعاول عملت ليلاً على هدم دور وحوانيت الحيدر خانة على رؤوس ساكنيها في مشهد يدمي القلوب, وليس هناك من يصغي الى شكاواهم.وظلم الكثير منهم وجاروا على الضعيف, على عكس من الذين تمكنوا من أن يرشوا من بيده الأمر في عدم تهديم منازلهم.
وفي مدة وجيزة تم إستكمال فتح الشارع بعرض 16 متراً وجرى الاحتفال بافتتاحه في 23/تموز/ 1916, يوم اعلان الدستور وحضره عدد من كبار الدولة. وقد أصبح الشارع ممراً عسكرياً للفيلق العثماني السادس على الرغم من عدم تبليطه.ومع دخول البريطانيين الى العراق دخلت معهم الاَفكار التخطيطية الغربية المتمثلة بشق الطرق وبناء الجسورحيث أكملت الإدارة البريطانية فتح الشارع واوصلته الى الباب الشرقي. اذ قامت سلطات الاحتلال بتسخير اعداد كبيرة من السجناء المحكومين بالأحكام الشاقة والمؤبدة لتبليط أرضية الشارع بالحجارة والصخور وثم دقها (بالمدقات) لرصفها وتعديل مستوياتها, وذلك لتسهيل تنقل السيارات العسكرية من قلعة السراي الى القنصلية البريطانية.
عن رسالة ( شارع الرشيد دراسة تاريخية ) /حيدر كامل