شعراء الشوارع يستعيدون عراقهم
منذ ساعتين
هيفاء زنكنة
1
حجم الخط
مع استمرار المظاهرات في عديد المدن العراقية، وإشهار النظام أدوات قتله بوجوه المتظاهرين، ومع سقوط المزيد من الشهداء، بشكل يومي، ومع حالة الخرس العربية المزمنة، برزت من صميم الانتفاضة، مستويات إبداعية متعددة لتتحدى نظام اللانظام، وعمليته السياسية الطائفية، الفاسدة، التي أسسها المحتل.
تنوعت مستويات الإبداع، التي طالما تميز بها الشعب العراقي، لتساهم في كسر حواجز الخوف والتقسيمات الطائفية والدينية والعرقية المفبركة. فمن الفن التشكيلي والكاريكاتير إلى الموسيقى والشعر والغناء إلى رفع شعارات تخطها الأيدي بحرقة قلب وغضب بات من المستحيل كبته. توحدت، هذه الأوجه المتعددة، جميعا، معبرة بالألوان، والمفردات، والصور عن الظلم والأمل والأحلام وحب الحياة. انضم الفنانون إلى المتظاهرين الشباب ليصرخوا بوجوه من استهانوا بكرامتهم بأن الشوارع ملكهم، والمدن ملكهم، وسيبقون فيها حتى يستعيدون الوطن. فالطغاة مهما تحصنوا بأسلحتهم، وأجهزة إعلامهم، وأموال فسادهم، ودعم سادتهم، يخشون الكلمة واللون وصوت المغني، خاصة إذا ما خضبتها دماء الشهداء.
وإذ ترحب الانتفاضة الجماهيرية بانضمام الطلاب والجامعات والأكاديميين ونقابة المحامين والمدرسين إليها، للتضامن مع من نزلوا إلى الشوارع يوم الأول من تشرين الأول/ اكتوبر وحتى اليوم، يقف أبناء الشعب متسائلين: هل نعيد اجترار الدموع ونلطم حتى إسالة الدم من صدورنا، وتحويل الشهداء إلى صور جامدة بلا حياة، ننساها بعد حين؟ رافضين للحلول الكاذبة ومقايضة الشهداء وتضحياتهم، يقول المتظاهرون: سنبقى وفاء لآمال الشهداء الذين سقطوا مطالبين بحق الكرامة وان يعيشوا سنوات تحقيق طموحاتهم في وطنهم. في شوارع مدنهم. أن يكتبوا قصائد أحلامهم بأنفسهم، لأنفسهم، ولأبناء شعبهم.
يقول المتظاهرون، في لحظات قتل زملائهم، وأجسادهم محروقة بالغاز: نحن أخوة الشهداء، وأهلنا في أرجاء الدول العربية يعرفون معنى ذلك جيدا، وهم يرفعون أجساد أبنائهم العارية إلا من دماء رصاص القناصين والغارات الجوية والغازات الخانقة لأنفاس شباب كل ما يريدونه هو بناء الأمل. هذه صباحات بلداننا ومساءاتها. نراها عبر شاشات التلفاز أو نعيشها ونحن نتساءل أي بلد عربي سيعيش الغدر والتنكيل اليوم؟ فلسطين؟ العراق؟ سوريا؟ أي البلدان هو؟ الشهداء متشابهون وخراب المدن متشابه. وآه… كم يتشابه الطغاة في أكاذيبهم وخنوعهم أمام أسيادهم الأجانب، واستئسادهم تجاه شعوبهم المقاومة الحية. ألم يكن شاعرنا الرصافي محقا بقوله «عبيد للأجانب هم ولكن على أبناء جلدتهم أسودُ»!
منذ الأيام الأولى للمظاهرات اختفى معظم الساسة وقادة الأحزاب وأعضاء البرلمان، باستثناء الخطاب الفضائي الذي ألقاه رئيس الوزراء عادل عبد المهدي وملهاة رئيس البرلمان الحلبوسي حول تحقيقه مطالب الشباب، ارتدى بقية الساسة طاقية الإخفاء، ليصبح المجال مفتوحا أمام الشعب من جهة وأجهزة النظام القمعية والقتلة من الميليشيات الإرهابية من جهة أخرى.
- اقتباس :
منذ عام 2003، عام الغزو والاحتلال، والعراق ينتفض ويثور كالبركان الذي ما أن يهدأ لفترة حتى يستعيد توهجه وغليان نيرانه
إزاء صمت أجهزة الإعلام أو شراء سكوتها، سيطر الشباب المتظاهرون، داخل العراق، على الفيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي ليتبادلوا وينشروا أخبارهم وما يحيط بهم، والتحليل والتعليق والصور والفيديوهات الناقلة للحدث الآني المباشر، التي غالبا ما ترفض أجهزة الإعلام الرسمية نشرها أو تقوم بنشرها بشكل انتقائي دقيق.
خارج العراق، في أمريكا وأوروبا، استحدث الشباب المتضامن مع المتظاهرين مجموعات «واتساب» تتابع وتتفاعل وتنظم التظاهرات أمام السفارات العراقية وأجهزة الإعلام الرئيسية كالبي بي سي ومقرات الحكومات ورؤساء الوزراء والأمم المتحدة. أبدعوا أساليب جديدة لجذب الانتباه إلى الإبادة التي يتعرض لها المتظاهرون داخل العراق، وإدانة الصمت الدولي، وتهرب الدول الغربية، وأمريكا خاصة من مسؤوليتها في غزو واحتلال العراق وتهيئة الأرضية للتقسيم والفساد والأرهاب.
مع الشباب المتظاهرالمستقل الذي لم يعد يطالب بالخدمات الأساسية باعتبارها أحلاما وطموحا بل حقا على الحكومة توفيرها، وقف عدد من فنانينا الكبار. لم تعد البلدان التي يقطنونها جدارا عازلا بينهم وبين المتظاهرين كما لم يعد اختلاف العمر فاصلا بين النشاط الإبداعي وانخراط الشباب في عملية التغيير، التغيير الضروري للتطوير المستمر في ديناميكية تعكس حب العراق.
خلال ايام قليلة أنتج الفنانون، ورثة الفن المعروف بمقاومته للاحتلال والقمع، عددا كبيرا من الاعمال الفنية، وفروها للجميع على صفحات الفيسبوك والانستغرام وكل مكان يجدون فيه متنفسا للحرية والتواصل مع المتظاهرين. رأينا فنانين يشاركون في المظاهرات، ورأينا آخرين عبر تخطيطاتهم ولوحاتهم ومنحوتاتهم. باتت أصوات المتظاهرين جزءا من الأعمال الفنية في لحظات اقتراب المخيلة والأحلام من الواقع. حملت أعمال الفنانين عناوين الشارع: لا لاغتيال المتظاهرين، نريد الوطن، قوات مكافحة الشغب وهي تداهم المتظاهرين، كلهم حرامية، نازل آخذ حقي، ولنا كلام آخر. وقد اختار منظمو المهرجان السنوي العالمي في مدينة ردينغ البريطانية، عشرين عملاً فنيا جديدا عن الانتفاضة لتعرض متزامناً مع ورشة حاشدة يوم الجمعة الماضي عن رحلة لتاريخ موسيقى العود العراقي كان مخططا لها منذ أشهر.
ضمن مجموعات الواتساب الشبابية باتت اللغة، بالتعليقات التغريدية القصيرة وأخطائها النحوية، سلاحا للتهكم من أعضاء الحكومة ومجلس النواب والأحزاب، وحتى المراجع الدينية التي تحاط عادة بالقدسية، مسها رشاش السخرية والتهكم. ولا تخلو صفحات التواصل من نقل دقائق ما يجري في الساحات والشوارع بأسلوب سردي يجمع بين المعلومة والتحدي والسخرية، بات منتشرا أثناء الانتفاضة. كتب أحد الشباب ناقلا إلينا خبر انضمام التلاميذ والطلاب إلى المتظاهرين:
«حدث تغيير كبير في العراق، خرج عشرات الآلاف من الطلاب من جميع مستويات التعليم في شوارع بغداد في احتجاج عام ينضم إلى المحتجين. حيث استيقظت الحكومة النايمة على صداع كبير، لا يمكنهم إطلاق النار على طلاب الصف الخامس الابتدائي بحقائب مدرسية من الرجل الحديدي!»
يهدد ساسة النظام العراقيين بالفوضى إذا ما استمرت المظاهرات وتم انضمام بقية شرائح الشعب إلى العصيان المدني، متعامين عن حقيقة أن وجودهم، بأحزابهم وميليشياتهم وولائهم لغير الشعب، هو الفوضى بعينها.
كاتبة من العراق