لبنان من الانتفاضة إلى الثورة
منذ 3 ساعات
الياس خوري
0
حجم الخط
أخطأ أمين عام حزب الله في خطابه الأخير حين استخدم كلمة شائعة هي الحراك، لوصف السيل الشعبي الجارف الذي احتلَّ شوارع المدن اللبنانية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، من طرابلس النور، مروراً بالذوق وجل الديب، وصولاً إلى صور.
الحراك يصح إطلاقه على تحركات شعبية مطلبية محدودة، كما جرى عام 2015 في مظاهرات بيروت الاحتجاجية ضد تحويل لبنان إلى مكبّ للنفايات.
منذ لحظة انطلاق التجمع الشبابي في ساحة رياض الصلح في بيروت، اتخذ التحرك الشعبي شكل الانتفاضة الشاملة، التي عمت كل لبنان.
انتفاضة ضد الطبقة الأوليغارشية المافيوية التي استباحت كل شيء، وتصرفت كمجمع للصوص. وارتفع شعار «كلُن يعني كلُن»، معلناً إدانة طاقم سياسي كامل، كانت مهمته الوحيدة نهب الدولة وتفليسها، وتعهير المجتمع، واللعب بالخطاب العنصري الطائفي الذي أوصله الوزير الصهر باسيل «الهيلا هيلا هوب» إلى ذروته.
ومع الانتفاضة، بدأت الفئة الحاكمة تتداعى: نبيه بري يُدان في الشوارع، التيار العوني يتفكك، تيار المستقبل يفقد السيطرة، القوات تهرب من الحكومة كي ينسى الناس خطاياها.
الثلاثي الحاكم: باسيل – الحريري – برّي، وجد نفسه معزولاً وفاقداً للتوازن، وخصوصاً بعد ورقة الحريري «الإصلاحية» التي تهدف إلى بيع ما تبقى من أملاك الدولة، وبعد خطاب عون المُمَنتج الذي أشار إلى أن رئيس الجمهورية فقد الصلة بالواقع.
ولم يبقَ في الميدان سوى الدولة الأمنية العميقة التي ورثها حزب الله، فصار السيد نصر الله هو المدافع الوحيد عن حكومة الفراغ، وأعادنا إلى خطاب السفارات والاتهام بالعمالة.
وما فات الأمين العام لحزب الله هو أن السفارات أعلنت على لسان سفراء الاتحاد الأوروبي دعمها للحريري وحكومته. السفارات هي في صف السلطة، ولم تعد في حاجة إلى الخداع كي تخفي زيف ادعاءاتها الديمقراطية الكاذبة.
اصطفاف حزب الله مع العهد الذي هندسه ليس مفاجئاً، فتبني النيوليبرالية الاقتصادية والاجتماعية هو موقف الحركات الإسلامية في صيغها المختلفة، لكن الخطير هو التلويح بالحرب الأهلية، علماً أن الانتفاضة تعلمت دروس الربيع العربي الموءود، وهي تُحرّم العنف مهما كان شكله وستتصدى له بمقاومة سلمية.
انظروا إلى ما يجري في العراق كي تروا المنزلق الذي قد يقودنا إليه النظام اللبناني في لحظة تداعيه.
إن فتح الطرقات بالقوة من أجل فرض ما يشبه الحياة الطبيعية وحصر المعتصمين في ساحات مقفلة يهدد بتحويلها إلى حفلات «كرمس»، هو أحد الأخطار التي يجب أن تواجه بشتى الوسائل.
لعبة القمصان السود تقف على المفترق، وستكون الملجأ الأخير، حيث سيستخدم النظام احتياطيه القمعي الاستراتيجي، لكن ما فات النظام ودولته الأمنية العميقة هو أن الانتفاضة تحولت إلى ثورة سلمية شعبية جارفة، وسحق الثورات ليس بالبساطة التي يتخيّلون، عدا عن أنه مؤهل للارتداد بشكل سلبي على القامعين.
تحوّل الانتفاضة إلى ثورة هو جوهر الموضوع.
الثورات لا تقلب نظام الحكم، فقلب النظام هو أحد نتائجها، لكنها تقلب القيم الاجتماعية وتحطّم الأفكار السائدة وتبني منظومة أخلاقية جديدة.
ثورة تشرين/ أكتوبر اللبنانية أعلنت وبشكل واضح أنها ثورة في الأخلاق والقيم واللغة، وهذا يتجلّى في ثلاثة مستويات:
المستوى الأول هو امتداد الثورة وتجاوزها العقبات الطائفية. الطائفية سقطت في الشارع. لقد اكتشف الشعب اللبناني أن شرط بناء لبنان كدولة هو إقفال المزرعة الطائفية التي لم تنتج سوى بنى سياسية عميلة للخارج.
الطائفية ضد الوطن، واللبنانيات واللبنانيون الذين يناضلون للتخلص من صفة الرعايا واكتساب هوية المواطن/ المواطنة، يعلمون أن شرط الوطن هو دولة مدنية علمانية.
لقد صنعت الثورة احتمال وطن، وهي مؤهلة لبناء أفق علماني للبنان.
المستوى الثاني هو التحام فئات الشعب المختلفة حول قضية العدالة الاجتماعية. إنها المرة الأولى منذ سنوات طويلة التي تلتحم فيها أجزاء من النخب الثقافية والجامعية بالقضية الاجتماعية، وبالطبقات الفقيرة المهددة بمزيد من الإفقار. الصراع الطبقي واضح المعالم، ويتخذ أشكاله الجديدة على أرض الواقع.
المستوى الثالث هو المشاركة الكثيفة واللافتة للنساء والشباب. حرية المرأة ليست هبة من أحد، المرأة اللبنانية تنتزع حقوقها في الشارع، حقها في منح الجنسية لأولادها، وحقها في جسدها، وحقها في إسقاط السلطة الذكورية البطريركية. أما مشاركة الشابات والشبان فهي مشاركة في القيادة وفي رسم ملامح الثورة. لقد انهارت سلطة القمع الأبوي، وجاء جيل جديد ليحتل موقعه، ومعه جاءت لغة جديدة لا علاقة لها بلغة الحنين إلى الماضي، بل هي لغة الحاضر والمستقبل.
هذه المستويات الثلاثة تستحق أن تُدرس بعمق، إنها مؤشرات التغيير الجذري الكبرى، فالتعيير يبدأ في المجتمع وفي القيم، ساحات طرابلس والنبطية وصور وجل الديب قدمت النموذج الأبرز للكيفية التي يتشكل فيها التغيير الثوري في القيم والسياسة وأشكال العمل الجماعي.
القيم التي أطلقتها الثورة تكاد لا تُحصى، من النساء والأولاد الذين يلمون النفايات كل صباح من ساحة الشهداء، إلى بطلات وأبطال إقفال الطرق، إلى الحس المدني الذي يغمر حياتنا، إلى آخر ما لا آخر له…
إنها لحظة نادرة صنعت الجمال والكرَم والشجاعة.
شكراً للبنان الذي فاجأ نفسه.
الطريق طويل أيتها الرفيقات والرفاق، لقد امتلكتم الشارع وأسقطتم السلطة بشكل رمزي، لكن الطريق لا يزال شائكاً، الأفق هو أن نثق -مهما حصل- بأن طريق الشعب يقود إلى الحرية.