«المندس» الناعم والمسلح في الانتفاضة العراقية
منذ 5 ساعات
هيفاء زنكنة
3
حجم الخط
يكثر الحديث الإعلامي والسياسي، فيما يخص انتفاضة تشرين/ أكتوبر العراقية، في الأيام الاخيرة، أثر إقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، عن «المندسين». لا يضاهيه في كثرة الترداد، حتى على مواقع التواصل الاجتماعي، بأنواعها، غير نعت «الذيول» المستخدم لتوصيف أتباع الاحتلالين الأمريكي والإيراني، وهو تعبير أجدى وأوضح لوصف التبعية الفكرية والعملية. وعلى الرغم من كثرة الترداد، ليس هناك تعريف محدد ومتفق عليه للمندسين، بل يتم استخدام التوصيف وفق ما يراه الفرد او المجموعة أو الحكومة، إزاء فرد او مجموعة أو حكومة أخرى، كل حسب انتمائه ومشاعره المتأججة، في حالة الافراد والمجموعات، والأجندة السياسية، المنهجية المتشابهة، في حالة الحكومات والدول. حيث تفتخر أجهزة المخابرات المركزية، في كل بلد، بقدرتها على اختراق او الاندساس بين صفوف المعارضين والثوار ومنظمات المجتمع المدني، أحيانا، ناهيك عن المنظمات الإرهابية، للدلالة على حفظها للأمن وحماية المواطنين.
وتتمثل ظاهرة الاندساس بين المتظاهرين السلميين بأكثر صورها وضوحا في ممارسات الكيان الصهيوني تجاه الفلسطينيين، اذ تثبت عدة فيديوهات موثقة، كيف يندس ملثمون بين المتظاهرين وهم يرشقون قوات الاحتلال بالحجارة، ثم يطلقون النار على المتظاهرين بينما تنشغل مجموعة منهم بعزل أحد المتظاهرين عن رفاقه وضربه بقسوة قبل اعتقاله. هؤلاء المندسون يسمون «المستعربين». أما في مصر، فقد رصد فيلم «المندس»، الوثائقي، قضية الاعتداء على المظاهرات من قبل من يُطلق عليهم «المواطنون الشرفاء»، لتتم اضافتهم الى المندسين المتعارف عليهم من بين قوات الأمن.
شغلت ظاهرة الاندساس حيزا كبيرا من مساحة التغطية الإعلامية للانتفاضة ومتابعة التغيرات الجوهرية التي تمكنت من تحقيقها خلال فترة قصيرة، وبتكلفة بشرية عالية، دفعت الرأي العالمي، الى الانتباه اليها، رغم اختيارها الاولي بالتعامي عنها. فمنذ اليوم الأول للانتفاضة والتصريحات الرسمية تخلط بتعمد بين المتظاهرين السلميين الذين لم يحملوا غير العلم العراقي سلاحا و«المندسين»، سواء كانوا وهميين أو من الميليشيات أو قوات الأمن. يكاد لا يخلو أي تصريح رسمي سواء من قبل رئيس الجمهورية والوزراء الى أصغر عسكري أو أمني في الحكومة من اتهام «المندسين»، بحيث أصبحت السردية العامة الجامعة بين الترهيب وتبرير القتل متشابكة الى حد كبير. وبات تناقض السردية من مسؤول الى آخر، وهم يعيشون حالة التخبط ووحشية رد الفعل إزاء الانتفاضة غير المتوقعة، يوقعهم بمسؤوليات قانونية لا يدركون هم أنفسهم مدى تورطهم فيها. ومن المتوقع، فيما لو نجح الشعب في تشكيل حكومة وطنية مستقلة، أن تستخدم التصريحات والأوامر والأفعال التي يتم توثيقها كأدلة في محاكمتهم كمجرمي حرب مسؤولين عن قتل مئات المتظاهرين وجرح الآلاف وإعاقة المئات بشكل دائم.
- اقتباس :
لقد أثبت المنتفضون، حتى اليوم، أنهم حملة الوعي الوطني، وأنهم، هم أنفسهم، المرجعية الحقيقية الناشطة لتحرير وبناء الوطن، مهما كانت محاولات الاندساس والتشويه وتدوير الوجوه القديمة
حسب التصريحات الحكومية، يظهر «المندسون» بين المتظاهرين بمسميات وأشكال متعددة، مما يمنح النظام حق اعتقالهم وخطفهم وقتلهم. حيث تحدث عادل عبد المهدي عن وجود «الخارجين على القانون»، أما المتحدث باسمه فقد وصفهم بأنهم «مخربون» وأصدر الأوامر باعتقالهم. وأعلن الناطق باسم مركز الإعلام الأمني « أن المندسين بين المتظاهرين استخدموا الحجارة وأطلقوا النيران ضد القوات الأمنية». ويأتي التناقض الأكبر في تصريح وزير الدفاع الذي اتهم «جهة ثالثة» في استهداف المتظاهرين بالأسلحة القاتلة، مما وسع من مفهوم الاندساس ليشمل، للمرة الأولى، الإشارة الى الميليشيات أو قوى خارجية «مجهولة الهوية» وسرعان ما تبنى رئيس الوزراء، الذي بات يوزع التهم يمينا ويسارا، كمحاولة لإنقاذ نفسه من المستنقع الذي حفره لنفسه، بإلقاء مسؤولية حملة اختطاف الناشطين من رجال ونساء بالإضافة الى لواء في الجيش، على «طرف ثالث»، في ذات الوقت الذي يُكذب الناطق باسم وزارة الدفاع تحسين الخفاجي التصريحات التي تدعي وجود أطراف مجهولة، أو عدم معرفة المندسين، لأن» مشاهدة التظاهرات من خلال أجهزتنا وطائرات المراقبة والكاميرات الممتدة في كل أنحاء بغداد تعطينا حركة كاملة للمتظاهرين والمندسين ومن يسيء الى القوات الأمنية والتظاهرات». فاذا كانت أجهزة وطائرات المراقبة والكاميرات توفر الحركة الكاملة للمتظاهرين والمندسين فلم لم تميز القوات الأمنية بينهم وبين المتظاهرين؟ وكيف صار هم قوات النظام قتل المتظاهرين بدلا من اعتقال المندسين؟
في خضم التصريحات الرسمية المفضوحة في بث الاشاعات لتشويه الانتفاضة السلمية، وللتغطية على جرائم النظام، برز نوع آخر من «الاندساس»، الذي يمكن وصفه بالناعم لأنه أكثر قدرة على الاندماج بالمنتفضين. وهو سلاح ذو حدين. حيث نزلت الى ساحات الانتفاضة وجوه كانت معروفة، قبل الغزو والاحتلال عام 2003، بتعاونها، على مستويات مختلفة، مع الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية، اما بشكل حزبي أو شخصي، لإضفاء الوجه العراقي على غزو البلد. وقد تمت مكافئة العديد منهم بمناصب استشارية، أما لرئيس الجمهورية او رئيس الوزراء. هذا على المستوى الشخصي أما على المستوى الحزبي، فقد كانت المكافأة بشكل مشاركة برلمانية، عبر تحالفات تَدَعي تمثيل الشعب. تتواجد هذه الوجوه في ساحات الانتفاضة، أحيانا، لوهلة قصيرة تكفيها لالتقاط الصور، لأثبات نظافة مواقفهم، وصدى لشعار «نحن مع مطالب المحتجين» الذي يردده كل ساسة « العملية السياسية»، بينما يتزايد سقوط الشهداء. ولا تخلو الساحات من وجوه حزبية تريد ركوب موجة التحرير، بعد اقصائها من «العملية السياسية»، التي كانت من أشد المؤيدين والمنظرين لديمقراطيتها عمليا وفلسفيا، وبعد ان فشلت في الحصول على مكاسب ترى نفسها جديرة بها.
ما هو الدور الذي سيلعبه «المندسون»، على اختلاف تسمياتهم، وتنوع طرق استغلالهم، سواء كانوا من مستخدمي السلاح او أصحاب الخطب الناعمة، بعد اقالة عادل عبد المهدي وحكومته بقوة المنتفضين المباركة بدماء الشهداء؟ لقد أثبت المنتفضون، حتى اليوم، أنهم حملة الوعي الوطني، وأنهم، هم أنفسهم، المرجعية الحقيقية الناشطة لتحرير وبناء الوطن، مهما كانت محاولات الاندساس والتشويه وتدوير الوجوه القديمة.
كاتبة من العراق