الأمن الدولي في ظل ديناميكية الهدم
منذ 13 ساعة
انطلقت يوم الجمعة الماضية 14 فبراير/ شباط في مدينة ميونيخ الألمانية أعمال مؤتمر الأمن، بحضور عدد كبير من صنّاع القرار والخبراء في مجالات السياسة والاقتصاد، بهدف مناقشة الأزمات التي تعصف بالعالم. والمؤتمر منصة مهمة جدا لتقويم الوضع الأمني الدولي الراهن، بهدف تنسيق الجهود ومناقشة السياسات والآليات الهادفة إلى توطيد دعائم الأمن والاستقرار.
وعلى الرغم من وجود هذه المنصات، التي تسلط الضوء على ما يجري من تهديدات جدية للأمن والسلم العالميين، لكن الملاحظ أن السير مبتعدين عن عالم أكثر سلما واستقرارا، بات هو السمة الدائمة، بسبب السياسات المدمرة، وانعدام الحد الأدنى من المصالح المشتركة.
ففي الوقت الذي تدّعي فيه الدول العظمى أن على عاتقها مسؤولية قيادة العالم والحفاظ على وجوده، هي نفسها باتت ترفض فكرة المجتمع الدولي، وتمارس السياسات بالقوة الغاشمة، وهذا ما يتبين بشكل واضح من خلال التقرير السنوي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، الذي يشير إلى ارتفاع نفقات التسليح في العالم بنسبة 4 في المئة، خلال العام الماضي، وهي أكبر زيادة مسجلة منذ عقد من الزمن. فالصين التي كانت تُعتبر قوة اقتصادية وحسب، باتت تعمل اليوم على بناء قوة عسكرية جبارة أيضا، فانتجت طائرة متطورة من الجيل الخامس، وصواريخ أسرع من الصوت بنسب تتراوح ما بين 5 ـ 10 مرات، وتستطيع التغلب على كل أنظمة الدفاع الجوي في العالم.
ولو نظرنا إلى الميزانية العسكرية للولايات المتحدة للعام المقبل، نجد أنها ستبلغ 740 مليار دولار، منها فقط 64 مليار دولار لتطوير الأسلحة النووية، وكذلك روسيا التي باتت تُسارع الخطى لتطوير صواريخ فائقة السرعة والدقة. هذه كلها مؤشرات حقيقية إلى أن العالم قد دخل مرحلة سباق تسلح من جديد. والأخطر في الامر هو أن الفاعلين الدوليين عادوا مرة اخرى إلى وضع السلاح النووي في محور السياسات العسكرية، لكل منهم. وهذا يعني بشكل واضح أن هذه القوى باتت لا ترى نفسها أنها من ضمن المنظومة الدولية التي تم التوافق عليها، وهي تسعى بكل جهد للتخلي عنها، فعندما يرفع الرئيس الامريكي دونالد ترامب شعار أمريكا أولا، فإنه يريدها أن تكون فوق العالم، وهي من تقرر له سياساته وطريقة العيش التي يسير عليها وفق القيم المعتمدة في بلاده. وعندما يجعل الروسي بوتين (من القوة السياسية والتغيير السافر لحدود القارة الأوروبية أداة سياسية مجددا)، و(الصين تقبل القانون الدولي على نحو انتقائي فحسب، عندما لا يتعارض ذلك مع مصالحها) كما يقول الرئيس الألماني في خطابه امام المؤتمر، فإن كل ذلك يعني سقوطا مدويا للمنظمات الدولية ورفضا سافرا لفكرة المجتمع الدولي، وبروز معادلة دولية جديدة قائمة على انعدام الثقة، والتوسل بالقوة العسكرية، وتدني الأمن الدولي.
إن النظام الدولي الذي نشا في عام 1945 بدأ بالتآكل وفقدان الشرعية، لقد تآكلت ترتيبة النظام، لأنه مع الوقت، ومع تبدل الأوضاع، تتبدل المصالح أيضا. ذهب العالم إلى مرحلة جديدة من المصالح، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق. وبعد 11 سبتمبر/ايلول، وتدخل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بطريقة الغزو العسكري، بدأ العالم يتآكل من جديد، ويتحضر لتركيب مرحلة جديدة.
هنا برزت ثلاثة مشاريع تسير بصورة متوازية ومتضادة مع بعضها بعضا على مستوى العالم. وهذا التضاد والتضارب في المصالح بين هذه المشاريع، أنتج للعالم أزمات واستعصاءات سياسية كبرى، فالمشروع الأمريكي يقوم على إظهار بطولتهم على مسرح الهندو- باسفيك. بما يعني وضع المحيط الهندي في بؤرة الاهتمام، بالنسبة لهم، لحاجة الصين إليه. ولان مضيق هرمز ومضيق باب المندب هما الامتداد الاقصى لهذا المجال الحيوي، نجد أن هنالك مشكلة مستعصية في اليمن، وصراعا مستميتا للسيطرة عليه من قبل قوى عديدة. أما المشروع الصيني فيلخّصه طريق الحرير البري والبحري، الذي هدفه تهميش الولايات المتحدة من خلال ربط 61 دولة بطرق وجسور وشبكات سكك حديد، لتسهيل خروج البضائع الصينية ووصولها إلى الحدود مع باكستان، ثم تمر بممر كلفته 60 مليار دولار يوصلها إلى بحر العرب ثم الشرق الأوسط، من دون أن يكون لأمريكا أي دور أو أاثير. في حين يقوم المشروع الروسي على الخروج إلى المياه الدافئة، من خلال الدخول بقوة إلى منطقة الشرق الاوسط، حيث استغل الخروج الامريكي منها في عهد الرئيس السابق أوباما، الذي بدأ انسحابا تدريجيا منها. وقد بشّر الرئيس الروسي بوتين بمشروع بلاده هذا، في العام 2009 في خطاب ألقاه في مؤتمر الأمن في المانيا قائلا، إن العالم سيتغير لأنه اعتبر سقوط الاتحاد السوفييتي أكبر كارثة جيوسياسية حلّت في العالم. بعدها مباشرة بدأ تهديداته لجورجيا ثم أوكرانيا، ليليها الدخول مباشرة على خط الازمة السورية. وعلى الرغم من وضوح صورة الصراع بين المشروع الأمريكي مع المشروعين الروسي والصيني، فإن المصالح التي تجمع بين المشروعين الاخيرين لا تمنع حالة التنافس بينهما على المدى الحيوي المستقبلي. فالصين التي تسعى إلى آسيا الوسطى تتضاد معها روسيا فيه، لأنها تعتبره مجالها الحيوي.
- اقتباس :
- بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وبعد تدخل أمريكا في الشرق الأوسط عسكريا، بدأ العالم يتحضر لتركيب مرحلة جديدة
إن العالم اليوم هو عالم الجبابرة الثلاثة، ترامب وبوتين وبينغ. هم يمثلون نهاية حقبة وبداية اخرى مختلفة تماما عن سابقاتها، إنهم الثلاثة ينعون للعالم موت العالم الليبرالي، ويهنئون أنفسهم بعودة العالم الأوتوقراطي القائم على نظرية الحاكم الأوحد. فترامب يقول إن العناية الإلهية هي التي أتت به إلى العالم، وإن ما حققه لم تؤت به الأوائل. وبوتين ينظر إلى نفسه على أنه قيصر روسيا الجديد والمنقذ من الكارثة الجيوسياسية، التي حلت ببلاده بسقوط الاتحاد السوفييتي. والصيني بينغ يعتبر نفسه صاحب أيديولوجية جديدة في إدارة بلاده تتطلب وجوده في سدة الحكم مدى الحياة.
أين أوروبا من كل هذا التآكل والاشتباك الدولي؟ يُلخص الإجابة على هذا السؤال الرئيس الفرنسي ماكرون، ويقول إن الدور الواجب على الاتحاد الأوروبي في هذا النظام الدولي الذي يتشكل اليوم، هو استقلالية أوروبا من خلال اقتصاد قوي، وسياسة خارجية موحدة، وقوة عسكرية تستطيع أن تحقق بها مصالحها في العالم، وفق عقيدة عسكرية أوروبية، بعيدا قدر الإمكان عن حلف الأطلسي أو بالتنسيق معه.
أين العالم العربي من كل هذا التموضع والتموضع المضاد؟ الجواب هو في موقع المفعول به في الجملة لا أكثر. الغريب أن التقرير السنوي الأخير للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، أظهر المملكة العربية السعودية في المرتبة العالمية الثالثة في الإنفاق العسكري قبل روسيا بقيمة 78.4 مليار دولار، من دون أي تاثير استراتيجي، يوازي هذا الإنفاق وتحقق به مصالحها. الأكثر غرابة أن العراق يقع في المرتبة الخامسة عشرة في الترتيب العالمي للانفاق العسكري بقيمة 20.5 مليار دولار، ولا يكاد يتبين له اي دور لا على الصعيد الدولي ولا على الصعيد الإقليمي، بل ولا على حتى على الصعيد المحلي.
إننا أمام اندثار حقيقي في قواعد ومؤسسات النظام العالمي، بسبب الأخطاء التي قامت بها كل الأطراف الفاعلة دوليا، وكذلك بسبب قانون تآكل الأشياء وتوالي المراحل أيضا.
*كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية
مؤتمر الأمن