واشنطن وطهران وسباق المسافات الطويلة في العراق.. بقلم: د. مثنى عبد الله
واشنطن وطهران وسباق المسافات الطويلة في العراق
بقلم: د. مثنى عبد الله
في الخامس والعشرين من الشهر الجاري يونيو 2020، قال بيان صادر عن حكومة بغداد، بأن الأجهزة الأمنية المختصة، داهمت موقع (اللواء 45) التابع لكتائب حزب الله العراقي، الموالي لإيران في منطقة البوعيثة التابعة لقضاء الدورة جنوب العاصمة. والمنطقة المذكورة ذات طبيعة زراعية، فيها مزارع تعود لمواطنين، وأخرى تابعة لمسؤولين في العهد السابق، استولى عليها العديد من الميليشيات، وجعلها معسكرات ومعتقلات خاصة به. وقد فصّل البيان الواقعة بالقول، إنه تم اعتقال عدد من العناصر في الموقع، بعد أن ضُبطوا وفي حوزتهم صواريخ مُعدّة للإطلاق على عدد من المنشآت العراقية والأجنبية في بغداد.
لتوقيت الحدث أهمية ودلالة، يمكن الإشارة اليهما بنقطتين: أولا، إن عملية المداهمة جاءت بعد بدء واشنطن وبغداد محادثات استراتيجية ثنائية، تهدف إلى وضع إطار عمل لمستقبل وجود القوات الأمريكية في البلاد، وتعزيز العلاقات الاقتصادية والثقافية بين الطرفين. وثانيا: إنها خطوة استباقية تأتي مع زيارة مرتقبة لرئيس الوزراء العراقي الجديد إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
ولفهم طبيعة الفعل والنتائج المتوخاة منه، لابد من الإشارة إلى التغيرات السياسية والعسكرية الحاصلة في العراق، وكذلك في الاستراتيجية التي أعادت رسمها واشنطن على ساحته والمنطقة أيضا. فالمسرح العراقي ظهر فيه رئيس وزراء وتشكيلة وزارية جديدان، وعلى الرغم من أن حكومته يفترض أنها انتقالية، مهمتها الإعداد لانتخابات مبكرة، ومعالجة الأزمتين المالية والصحية، التي تعصف بالبلاد، لكن الدور المنوط به من قبل اللاعب الأمريكي، هو إعادة حدود النفوذ بين واشنطن وطهران، إلى شكل معادلة متوازنة بين الطرفين. فالصراع الذي تفاقم بينهما، والمدفوع بسياسة أقصى الضغط الاقتصادي، يتطلب تقزيم النفوذ الإيراني في العراق، كي تكون النتائج المتوخاة من قبل صانع القرار في واشنطن، كما هو مرسوم لها. لذلك يبدو غريبا أن تدفع الولايات المتحدة الأمريكية رئيس الوزراء الجديد، إلى استهداف جزء محدود من الأصول الإيرانية في العراق، من خلال عمليات مداهمة لمقرات ميليشيات مسلحة تابعة لها، وإلقاء القبض على عدد من المسلحين، رغم أنها تعلم جيدا أن هنالك أطرافا كثيرة داخل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، هي الممثل الشرعي لهذه الاذرع الإيرانية بكل ما يمثلونه من مراكز نيابية ووزارية، ومفاصل إدارية مهمة في الدولة العراقية، لكن الغرابة تنتفي عن هذا الفعل حينما يكون الهدف الأمريكي المتوخى من عملية الاستهداف محدودا، ومقتصرا على زعزعة سلطة الرُعب التي تتسلح بها الميليشيات ضد الآخرين، ما يتيح فرصة لسقوط هيبتها.
وهنا يبرز سؤالان منطقيان الأول: لماذا محدودية الهدف المتوخى من الاستهداف؟ والثاني لماذا لا تكون نهايات الاستهداف مفتوحة، كي تشمل أوسع مساحة ممكنة؟ والإجابة تأتي لتقول بأن صانع القرار الامريكي ليس مختارا في الذهاب إلى هذا الحل، فمازال حتى اليوم، لا يوجد قرار أمريكي بفصل الساحة العراقية عن الساحة الايرانية السياسية والاقتصادية. والسبب في ذلك هو تشّكل كل السلطات العراقية على أساس التوأمة بين الولاء لإيران والولايات المتحدة. وبالتالي فإن كل الولادات القيادية في العملية السياسية القائمة، لن تخرج عن هذا الإطار. بمعنى آخر أن الولايات المتحدة، غير قادرة على الاعتماد على بُنية سياسية خالصة الولاء لها، تحقق أهدافها بها، لذلك هي مضطرة للتعامل بخيارات محدودة. وهنا يصبح الفعل الأمني الأخير ليس حدثا جللا وتجاوزا جسورا من قبل رئيس الوزراء لخطوط حمر إيرانية مرسومة. ففي النظرة الأمنية المهنية الخالصة، فسّر بعض الخبراء المختصين، بأن إلقاء القبض على عدد صغير ومحدود من العناصر التنفيذية، وليست القيادية، لا تعني شيئا بالنسبة لاستراتيجية الفاعل الإيراني. كما لا يُنظر إليها على أنها تهديد حقيقي وخطير لنسيج نفوذه في الساحة العراقية. وفي الوقت نفسه فإن الولايات المتحدة لا تراهن على الحدث بأن زاوية ميلان مصالحها انفرجت أكثر، وأن مساحة نفوذها اتسعت بشكل أكبر.
قد يكون الحدث مهما لرئيس الوزراء في بغداد من عدة نواح، أراد من خلاله توجيه رسائل مباشرة وغير مباشرة. فالرسالة الأولى التي أراد توجيهها للآخرين هو أن لديه أوراق ضغط كثيرة عليهم، كان قد جناها من عمله رئيسا للمخابرات، ويعرف أفعالهم المخفيّة جيدا وقادرا على أحراجهم بها. وبالتالي فإنه لن يكون الحلقة الأضعف بينهم، كما يتصورون، على اعتبار أنه ليس منتميا إلى حزب أو كتلة سياسية يستظل بظلها، ما يسمح لهم بسحب موافقة الاستيزار التي منحوها له. الرسالة الثانية هي للفاعل الإيراني، كي يفهموا بأن عملية المُداهمة تعزز من حظوظه في الحصول على الدعم المادي الامريكي في موضوع الانهيار الاقتصادي والمالي، ما يُبقي العراق رئة اقتصادية ومالية تتنفس بها إيران، في ظل العقوبات الاقتصادية، ويُبعد كابوس تحوّل العراق إلى عبء اقتصادي عليها. الرسالة الثالثة والأهم هي لتلميع الصورة والموقف العملي الخاصين به، أراد توجيهها للفاعل الامريكي الذي أستاء من زيارته إلى ما يسمى هيئة الحشد الشعبي في السادس عشر من الشهر المنصرم مايو 2020، حيث ارتدى زي الحشد المحسوب على إيران، والتقى عددا من القيادات التي تعتبرهم واشنطن يُهددون مصالحها في العراق. حينها اعتبر العديد من الساسة الامريكيين أنها أولى الرسائل السلبية التي أخطأ كثيرا في توجيهها إليهم. وبسبب هذه السلبية هم اليوم يُقيّمون خطوته الاخيرة، فيما إذا كانت مُجرد تلميع لصورته أمامهم، أم أنه حقا موقف مبدئي يُعبّر عن أدراك واع لما ينتظرون منه، من تنفيذ لمهام مطلوبة تعزز موقعهم في الصراع الدائر مع طهران.
إضافة لما تقدم فإن فعالية المداهمة لموقع كتائب حزب الله العراقي، لا يمكن أن تكون بعيدة عن مشروع بناء مستقبل سياسي لرئيس الوزراء، أو أن تكون خطوة من ضمن خطوات أخرى هي مجموعة التزامات وافق الرجل على القيام بها لتأمين الدعم المادي والمعنوي الامريكي والغربي، لتركيز قدميه في السلطة وتوفير الحماية اللازمة له من الشركاء الأقوياء. وتبقى لعبة التوازنات بين الفاعلين الأمريكي والإيراني تلقي ظلالها على الفعل الاخير، فيكون الفعل وفقا للتحليل السياسي يقع ضمن استحقاقات هذه الدائرة أيضا. فرئيس الوزراء ليس من خارج المنظومة السياسية القائمة، كما أنه استوزر باتفاق طهران وواشنطن. ومشكلة هذا التوافق هي أنها تجعل كل من في قمة السلطة مجرد لاعب على حبل التوازن المشدود بين الطرفين، من دون أدوات سياسية فاعلة تخصه هو وحده.
لقد تغيرت قواعد الاشتباك في العراق بعد مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني. وهذا الموقف وضع رئيس الوزراء الجديد تحت حزمة ضوء أمريكي وحزمة ضوء إيراني كذلك، كلاهما ينتظران منه تنفيذ أجندتهم. لذلك يبقى مستقبله السياسي مرتبطا بمسارات اللعبة الخارجة عن إرادته، كما يبقى مستقبل العراق مرهونا بهذا الصراع.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية