الانتخابات التشريعية المبكرة تعتبر نتاج حراك شعبي يطالب بالتغيير ورحيل نظام سياسي قائم على المحاصصة، إلا أنها باتت فرصة للأحزاب الدينية لإعادة إنتاج منظومة اختبر العراقيون فشلها.
بغداد - تتنافس الأحزاب الدينية في العراق التي يُمسك أغلبها بمقاليد السلطة منذ العام 2003 لإعادة التموضع سياسيا وتحصين وجودها الذي اهتز على وقع احتجاجات اندلعت منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019 رفضا للنظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية.
ويقاوم الحراك الشعبي حاليا لاستعادة زخمه بعد أن خفت بسبب جائحة كوفيد 19، فيما تكابد جماعات الإسلام السياسي بشقيها الشيعي والسنّي للحفاظ على نفوذها وعلى نظام سياسي يأبى الرحيل.
وبعد أشهر قليلة سيجد العراق نفسه في خضم استحقاق انتخابي مبكر لا يبدو أنه سيغير شيئا في مشهد يتداخل فيه الديني بالسياسي وتعلو فيه مصالح الأحزاب الدينية على المصلحة الوطنية وان كان البعض يرفع شعار المصلحة الوطنية ومكافحة الفساد بينما العين على النفوذ وانتزاع مكاسب سياسية.
وهذا إلى حدّ ما حال مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري الذي يخوض معارك مدفوعة بطموحات شخصية مستمدا "شرعيته" الدينية والسياسية من ارث والده المرجع الشيعي العراقي محمد محمد صادق الصدر الذي كان معارضا لنظام الراحل صدام حسين ومن ارث جده محمد حسن الصدر الذي كان رئيسا للوزراء في العراق في 1948 وعضوا ورئيسا لمجلس الأعيان في البلاد، حيث ورث مقتدى الزعامة بشقيها الديني والسياسي ولم يصنعها ويحاول منذ الغزو الأميركي لبغداد عام 2003 أن يصنع مجدا لنفسه بالسلاح وبالاحتكام للشارع.
وكان من أكثر الشخصيات تقلبا في مواقفه بين ممارسة الدين والسياسة وبين إعلان اعتزال السياسة والانكفاء للتفرغ للعلم، فتارة ناصحا وتارة أخرى "ثوري" مقاوما لفساد النخبة، معاديا لإيران حينا ومواليا لها أحيانا، متقربا من السعودية حينا ومجافيا أحيانا، داعم لحكومات عراقية ومناهض لها في آن وهي جزء يسير من مواقف مضطربة ومتقلبة.
وسيكون العراق في يونيو/حزيران 2021 على موعد مع الانتخابات التشريعية المبكرة التي تتسابق فيه الأحزاب الدينية للحفاظ على النظام القائم، بينما كان المحتجون الذين قتل منهم ما يقرب من 600 شخص يمنون النفس بتغيير جذري ينهي نفوذ جماعات الإسلام السياسي ونفوذ إيران في العراق.
ويرى معارضو النظام السياسي القائم على المحاصصة أن الانتخابات التشريعية المبكرة لم تأت لحل المعضلات القائمة والتي دفعت العراقيين للشارع بل وسيلة لإنقاذ هذا النظام بمسمياته الوطنية والطائفية.
وعلى هذا الأساس يعتقد هذا الشق أن ما يجري أو ما قد سيجري هو إعادة إنتاج للمنظومة السياسية وتجربة الحكم الفاشلة التي اختبرها العراقيون لنحو 18 عاما منذ هيمنة الشيعة على رئاسة الوزراء والسنّة على البرلمان والأكراد على رئاسة الدولة، وان تغيرت الوجوه.
وقد يحقق الصدر طموحه ومطامعه في السلطة كأن يربح الأغلبية البرلمانية بما يخول أن يكون رئيس الوزراء من التيار الصدري على حساب خصومه من البيت الشيعي الذي تفكك ائتلافه على وقع خصومات على النفوذ وتداعت أركانه دون أن يتداعى ولاؤه لإيران.
وقد فشلت محاولات كثيرة لإعادة ترتيب البيت السياسي الشيعي وراب الصدع بين مكوناته في ظل شدّ وجذب ذهب بعيدا عن شعار "المصلحة الوطنية" التي حرص هذا المكون على رفعه في كل انتخابات تشريعية. وكان لافتا أن الدعاية للانتخابات التشريعية واستعجال المكون السياسي الشيعي على إجرائها ركزت على أنها الفرصة الأمثل لإحداث
الأحزاب الدينية تغرق العراق في نفق مظلم
التغيير المطلوب، لكن على الجهة المقابلة لا يعتقد العراقيون الذين انتفضوا واسقطوا حكومة عادل عبدالمهدي أن الانتخابات التشريعية ستأتي بالتغيير الذي يتطلعون له، متوقعين أن تحدث انتخابات يونيو/حزيران تعديلات طفيفة لا تمس جوهر العملية السياسية، فالأحزاب الدينية التي هيمنت على المشهد العراقي طيلة نحو 18 عاما هي نفسها التي تتزاحم على الفوز في الاستحقاق الانتخابي مستمدة قوتها من سلطة تقليدية وارث سياسي لم تصنعه ومال جنته من سنوات حكم فاسد وفاشل أو ضخ لها على أرجح التقديرات من الحاضنات الإقليمية.
وفي خضم هذا المشهد الذي بات مألوفا لدى عامة العراقيين بمضامينه وبما ظهر منه وما خفي، يبرز رجل الدين الشيعي وان لم يكتسب هذه الصفة إلا من خلال وسائل الإعلام ومن خلال أتباعه حيث لم يرق ولم يترق في درجات العلم ولم يصل إلى مرتبة المرجع وإنما وراثة.
ومع ذلك نجح الصدر في أكثر من مناسبة في تحريك الشارع العراقي رافعا شعار مكافحة الفساد ومقدما نفسه كرجل إصلاح واكتسب شعبية أهلته ليكون رقما صعبا في المعادلة السياسية في العراق، لكن هذه المكانة اهتزت لدى غالبية العراقيين سواء بالفطرة أو بتراكم التجربة، فقد اختبر العراقيون تجربته منذ العام 2003 وصولا إلى أكتوبر/تشرين الأول 2019 والتي امتدت في الفترة الأخيرة باقتحام أنصاره لساحات الاحتجاج والدخول في مواجهات مع المحتجين المناوئين لنظام الحكم القائم.
ويقدم الصدر نفسه استثناء ضمن كل من شاركوا في المنظومة السياسية التي حكمت العراق في الفترة التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين، مروجا لشخصه كشخصية وازنة لها شعبيتها في الشارع العراقي وفي المشهد السياسي، لكن الشعارات التي رفعت خلال الاحتجاجات الأخيرة أسقطت كل تلك الادعاءات وأثبتت أنه جزء من منظومة وتجربة حكم فاشلة، بينما انخرطت ميليشياته في قمع المحتجين، فأصبح منبوذا شأنه في ذلك شأن كل قادة الأحزاب الدينية التي قادت العراق طيلة ما يقرب من 18 عاما.
وفقد الصدر مصداقيته لدى الشارع العراقي بناء على ما تقدم ذكره وأيضا بناء على تجربة عايشها العراقيون واقعا، فالرجل الذي بات يتخبط في موقف ونقيضه أحرق كل مراكبه منذ 2014 تحديدا حين أعلن اعتزاله السياسية وحين قرر تباعا غلق مكاتبه وحل جيش المهدي ذراعه العسكرية التي خاض بها مواجهة مع الجيش الأميركي تحت مسمى "المقاومة" وأكسبته في البداية شعبية محلية وأخرى إيرانية، لتعود تلك الميليشيات سريعا تحت اسم سرايا السلام والتي شاركت في قتال تنظيم الدولة الإسلامية.
ويقول سياسيون عراقيون إنه لا يمكن للصدر أن يتخلى بسهولة على مخلبه (ميليشياته المسلحة) وسط الإخوة الأعداء ومن ضمنهم المنشقون عنه من أمثال قيس الخزعلي زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق.
وبات لدى العراقيين الذين خبروا واختبروا تقلبات الصدر، قناعة بأنه لا يختلف عن نموذج رجال الدين الذين امتهنوا الدين غطاء والسياسة بالوراثة رغم محدوديته فكريا وعلميا وسياسيا وهو مشهد يختزل التداخل في العملية السياسية وانفلاتها من ضوابط المنطق والعقل.