دماء الأبرياء وحرية المجرمين بين بغداد وواشنطن
منذ 3 ساعات
قبُيل مغادرته البيت الأبيض راح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوزع مكرماته بالعفو عن الآخرين. كان من ضمن الذين شملتهم هذه المكرمة أربعة من عناصر الشركة الأمنية المعروفة بـ(بلاك ووتر) التي عملت سنوات في العراق بعد عام 2003. كان عملها توفير الحماية لكل من القادة العسكريين والمدنيين الأمريكيين والعراقيين.
هؤلاء الأربعة أدينوا في الولايات المتحدة بقتل أربعة عشر عراقيا بينهم طفلان، وجرح أكثر من سبعة عشر آخرين بينهم نساء وأطفال، في مجزرة بشعة ارتكبوها في السادس عشر من سبتمبر عام 2007. في ذلك اليوم مرّ موكب مسؤول رفيع من ساحة النسور في العاصمة العراقية، فظن هؤلاء أن تهديدا أمنيا تعرض له الموكب، فما كان منهم إلا أن فتحوا نيران أسلحتهم، بضمنها القنابل اليدوية على كل شيء يتحرك في تلك الساحة.
كان هذا هو السياق المتبع في التعامل مع العراقيين آنذاك، حيث كانت آليات الغزاة تجوب الشوارع، وعليها لافتة تحذيرية تقول (أبقى بعيدا 100 متر قوة مميتة). وإن توقفوا يجب على الجميع التوقف، سيارات ومشاة، بشرا كانوا أم حيوانات، وإن ساروا سار الجميع خلفهم بكل حذر. ولبشاعة الواقعة، فقد تسببت بفضيحة دولية كان من نتيجتها الضغط على الإدارة الأمريكية لإحالة الملف إلى القضاء الأمريكي، لكن سير التقاضي لم يكن سهلا أبدا، وأن عراقيل كثيرة وضعت في طريق الوصول إلى الحقيقة، كي تتم لملمة القضية بأقل حكم ممكن، لكن الفترة الزمنية التي استغرقتها المحاكمة منذ عام 2009 وحتى صدور الحكم عام 2015، أفسحت المجال أمام وزارة العدل للحصول على أدلة وشهود وشواهد، لا تقبل النقض، وليكون الحكم الصادر بحق الجناة بالسجن مدى الحياة على أحدهم، وثلاثين عاما للثلاثة الآخرين، آنذاك قال المدعي العام الأمريكي في بيان له أن (مدى الخسارة الإنسانية التي لا داعي لها، والمعاناة الإنسانية التي تسبب بها السلوك الإجرامي للمتهمين في 16 سبتمبر 2007 كان مذهلا). لكن الضغوطات في ما بعد تسببت في تخفيف الحكم من ثلاثين عاما إلى 12 عاما على الثلاثة المتهمين، ثم يستمر مسلسل التهرب من العدالة، ليصل الملف إلى يدي الرئيس في الأيام الأخيرة من ولايته، فيعفو عنهم قائلا، إن هؤلاء قدموا خدمات جليلة للقوات الأمريكية، وينصب نفسه قاضيا، فيرى أن العقاب لا يتلائم مع الجريمة، واصفا إياهم بقدامى المحاربين، الذين لهم تاريخ طويل في خدمة البلاد ويستحقون الثناء، حسب بيان البيت الأبيض. لكن حقيقة الموقف الذي دفع ترامب للعفو عنهم ليست في هذا الهراء الصادر عن البيت الأبيض على لسان الرئيس، بل بسبب ضغوط العلاقة الشخصية التي تربطه بمدير شركة «بلاك ووتر» السابق، الذي حصلت الحادثة في عهده، كما أن وزيرة الثقافة الأمريكية التي استوزرها ترامب هي شقيقة مدير «بلاك ووتر».
- اقتباس :
- العفو الرئاسي الأمريكي عن قتلة 14 عراقيا في بغداد، استغلال سياسي لكسب تعاطف الرأي العام عند بعض الأمريكيين
وإذا كان عار السلطات الأمريكية الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية يتضح بشكل جلي في هذه القضية الإنسانية، فإن عار السلطات العراقية الثلاث، أدهى وأكبر، إقرأوا بيان وزارة الخارجية العراقية، وتمعنوا في كلماته جيدا، لتجدوا حتى الكلمات التي لا معنى لها بات الناس يستهجونها من كثرة الترديد، من دون فعل مثل، نندد ونستنكر وندين ونرفض، لن تجدوها في البيان، فقط (ستعمل وزارة الخارجية العراقية على متابعة الأمر مع حكومة الولايات المتحدة، عبر القنوات الدبلوماسية، لحثها على إعادة النظر في القرار). قارنوا لهجة هذا البيان بالبيانين الصادرين عن الوزارة العراقية نفسها بخصوص مقتل قائد فيلق القدس الإيراني في 3 يناير 2020، ومقتل العالم النووي الإيراني فخري زاده في 27 نوفمبر 2020، ستكتشفون الفرق الشاسع بين الموقفين. ولمزيد من الإيضاح شاهدوا عبر اليوتيوب صرخات النواب في البرلمان العراقي المنددة بمقتل سليماني، وقرارهم بطرد القوات الأمريكية من العراق، وضرب السفارة الأمريكية بالصواريخ يوميا، ردا على مقتله. لكن لا تتحيروا ولا تصيبكم الدهشة من هذا الموقف، صحيح أن من قُتلوا في ساحة النسور عراقيون، لكن العفو عن قاتليهم لا يستدعي ذهولا ولا ضجة، فهم في عقل الطغمة الحاكمة في بغداد ربما مجرد (بدون) لا يمتون للعراق بصلة، ولا يستدعي الأمر قلق السلطات الحاكمة إن تعرضوا للقتل، فالسلطات نفسها تقتلهم وتعتقلهم وتغيبهم يوميا.
إن قلت لي لا، هذا موقف ليس حقيقيا، أحيلك إلى كل الجرائم التي حصلت بحق العراقيين منذ عام 2003 وحتى اليوم، هل كشفت السلطات عن الجهات التي خطفت وقتلت وهجّرت الملايين من العراقيين؟ هل استطاعت هذه السلطات أن تكشف لنا من قتل أكثر من 600 متظاهر سلمي، واختطف الآلاف منهم من ساحات بغداد وبقية المحافظات؟ هل تحركت هذه السلطات للمطالبة بحقوق آلاف ممن اعترفت قوات التحالف الدولي أكثر من مرة بقتلهم وجرحهم بطريق الخطأ كما يقولون، في العمليات الحربية التي كانت جارية في محاربة تنظيم «الدولة» بين العراق وسوريا وفي الموصل؟ في حين يرسم القانون الدولي خطة واضحة في هذا الجانب للتعويض عن الأضرار المادية والمعنوية، من ضمنها أن مسؤولية الدول واجبة في محاكمة المجرمين، عن انتهاكات كهذه وضرورة التعويض عن الأضرار. وإذا كان العالم قد اتفق على شُرعة تضبط سلوك الدول في حالات النزاعات، وإلزامها بحماية المدنيين باتفاقيات جنيف الأربع، والبروتوكول الإضافي، فإن من واجب السلطات في الدول التي تحصل انتهاكات كهذه على أراضيها التوسل بهذه القوانين لصيانة حقوق مواطنيها، بينما لاذت الحكومات العراقية المتتالية بالصمت المطبق، ولم يطالبوا حتى بالتعويضات، وإلى اليوم لم تكن هنالك أي تسوية للضحايا في جريمة «بلاك وتر» رغم مرور 13 عاما على الحادثة.
إن العفو الرئاسي عن قتلة العراقيين في ساحة النسور في بغداد، وإخلاء سبيلهم من الاعتقال هو استغلال سياسي لكسب تعاطف الرأي العام عند بعض الأمريكيين، وإذا كانت السلطات العراقية قد واجهت الموقف بتصريح صحافي تسيل منه لغة فجة لا ترقى إلى أبسط متطلبات الشعور بالمسؤولية، فإن اتحاد الحريات الأمريكي، كان بيانه أكثر مسؤولية وقال، إن العفو عن هؤلاء العناصر يهين ذكرى الضحايا العراقيين. كما أدان مسؤولو حقوق الانسان التابعون للامم المتحدة قرار العفو، لأن من شأنه أن يشجع الآخرين على ارتكاب مثل هذه الجرائم على حد وصفهم. لكن العفو بحد ذاته يعطي صورة واضحة عن كيفية التعامل الامريكي والغربي عموما معنا، ويجلي الستار عن النظرة الفوقية التي يتعاملون بها حتى مع قضايانا الإنسانية، منطلقين من شعور متعجرف بأن تفوقهم يعطيهم حقوقا مضافة في ازدراء الاخرين والاستثمار حتى في دمائهم، من أجل مصالحهم. لذلك نرى المشهد واحدا في غزو واحتلال العراق، وغزو واحتلال أفغانستان، وغزو واحتلال فيتنام من قبل. لكن عندما يُقتل أحد رعايهم تقوم الدنيا ولا تقعد، لأنهم يؤمنون بأنهم بشر من الدرجة الأولى وغيرهم من الدرجة التاسعة.
واهم من يظن أن هنالك «بلاك ووتر» شركة أمنية أمريكية واحدة تسببت بقتل عراقيين، فقد عرف العراقيون عشرات شركات «بلاك ووتر» شكلتها الميليشيات العراقية، كانت وما زالت تقتل وتخطف معتمدة على أصول الدولة المادية والمعنوية، من سيارات وأموال وعناصر وأسلحة وقضاء أعمى وأصم وأبكم. كما شاركت طواقم العملية السياسية جميعها في قتل العراقيين، بعضهم بيده وآخرون بالسنتهم، وفريق ثالث بقلوبهم، لكن الجميع قاسمهم المشترك أنهم استغرقوا 17 عاما في مسيرة البحث عن ضمائرهم التي لم يجدوها لحد اليوم.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية