شق من التونسيين يرى في أعمال النهب والتخريب نتاجا لفشل المنظومة السياسية ومنوال التنمية واستشراء الفساد، لكن شق آخر يراها فوضى مدفوعة أخرجت المخربين واللصوص من جحورهم ليلا.
تونس - تحولت الاحتجاجات الاجتماعية في تونس في الذكرى العاشرة للثورة، إلى أعمال شغب ونهب وتخريب في عدة مدن يقف وراءها سكان مناطق مهمشة معظمهم من الشبان. فلماذا وقعت هذه الصدامات مع الشرطة؟ وما الذي أثار تلك المواجهات؟
وعلى خلاف ثورة يناير/كانون الثاني 2011 التي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق الراحل زين العابدين بن علي والتي كانت عفوية ومنظمة وتولى قيادتها لاحقا الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمات المجتمع المدني وشابتها وتخللتها بعض أعمال التخريب والنهب، فإن الاحتجاجات الليلية الأخيرة بلا رأس (قيادة) ولا مطالب اجتماعية واتسمت أساسا بالتخريب وسرقة المحلات التجارية.
ويفسر البعض من التونسيين تلك الأحداث التي أساءت كثيرا لصورة تونس على أنها نتاج فشل المنظومة السياسية في حل المشكلات الاجتماعية وفشل المنوال التنموي واستشراء الفساد، لكن شق آخر يرى أنها فوضى مدفوعة أخرجت المخربين واللصوص من جحورهم ليلا، متسائلين لماذا يخرج هؤلاء ليلا إن كانت مطالبهم اجتماعية.
وحظر التجوال ومنع التظاهرات والتجمعات ضمن إجراءات كسر حلقة العدوى بفيروس كورونا، يفترض أن يكبح اي تحركات في النهار أو الليل لكن "المحتجين" لا يخرجون إلا ليلا.
وكان لافتا أن الاحتجاجات اندلعت في ظل أزمة سياسية واقتصادية وتزامنت مع تعديل حكومي جاء بدوره نتيجة انسداد سياسي ومعلومات سابقة عن توتر بين الرئاسة ورئاسة الحكومة.
لكن المثير في خضم هذه التطورات أن المحتجين لا يخرجون إلا ليلا ولم يبق عالقا في أذهان التونسيين والمتابعين لمسار تلك الاحتجاجات إلا مشاهد عمليات النهب والتخريب واستهداف محلات تجارية بعينها.
ويطرح ذلك أكثر من علامة استفهام حول تلك الاحتجاجات وهل أن ثمة من يؤججها وينفخ في نيرانها أملا في إغراق البلاد في الفوضى لمآرب سياسية. ويسود اعتقاد أيضا أن هناك أطراف سياسية تدفع باتجاه تأزيم الوضع المتأزم أصلا.
الاحتجاجات اندلعت في ظل أزمة سياسية واقتصادية وتزامنت مع تعديل حكومي جاء بدوره نتيجة انسداد سياسي ومعلومات سابقة عن توتر بين الرئاسة ورئاسة الحكومة
وليس ثمة واقعة محددة تسببت بهذه الحوادث، لكن التوترات المتصاعدة أصلا جراء الأزمة الاجتماعية العميقة التي فاقمها وباء كوفيد-19 ازدادت مع نشر عناصر الشرطة لفرض احترام حظر التجول الذي يبدأ في الساعة الرابعة بعد الظهر من الخميس إلى الأحد.
وطبق حظر التجول في الأشهر الأخيرة اعتبارا من الثامنة مساء، لكن تم تشديده في الأيام الأربعة الأخيرة للحد من تفشي فيروس كورونا.
وقال المحلل السياسي سليم خراط "من الصعب تضييق الخناق على الشبان علما بأن بعضهم لا يعود عادة إلى منزله سوى للنوم هربا من التوتر أو الاختلاط".
وفي شهر يناير/كانون الثاني يشهد عادة تعبئة في تونس كونه يصادف ذكرى العديد من النضالات الاجتماعية والديمقراطية.
لكن كل التجمعات محظورة راهنا ولم يستثن هذا التدبير إحياء الذكرى العاشرة لسقوط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في 14 يناير/كانون الثاني 2011.
ومع حلول الليل في الأيام الأخيرة، عمد شبان وأحيانا قاصرون وفق وزارة الداخلية وصحافيين، إلى تحدي عناصر الشرطة عبر رشقهم بالحجارة والزجاجات الحارقة.
والمفارقة أن ليس هناك مطالب واضحة. وتصف السلطات وكذلك بعض السكان هؤلاء بأنهم "مهمشون" وخصوصا أن الاحتجاجات تخللتها أعمال نهب.
وعلق خراط بالقول "هناك نية لمواجهة رموز السلطة في الأحياء المهمشة وخصوصا مراكز البريد والشرطة".
وتأتي هذه المواجهات بعد سلسلة من التظاهرات منذ الصيف رفضا لإهمال الدولة المناطق المهمشة. ويندد محتجون بالطبقة السياسية الغارقة في معاركها الداخلية من دون إدراك البؤس الذي غرقت فيه العائلات الفقيرة أصلا بسبب الوباء.
ويقول المؤرخ بيار فيرمورين "لعل عدم اندلاع مزيد من الاحتجاجات يشكل معجزة"، ملاحظا أنه في مواجهة التراجع التاريخي لإجمالي الناتج المحلي (-9 بالمئة)، لم تعد الدولة التونسية الغارقة في الديون قادرة على الحد من الأزمة.
الحل الأمني الوحيد يبدو الخيار الوحيد المتاح حاليا خشية تصاعد التوترات
وأضاف أن "السياحة التي تُشغل نحو ربع السكان باتت شبه معدومة ومن دون عائدات تعويض على غرار فرنسا". وخلال أشهر الإغلاق الثلاثة العام الماضي دفعت الدولة 140 يورو من المساعدات لكل عائلة فقيرة.
وكذلك، يعاني بعض المتظاهرين الشبان مشكلة الانقطاع عن التعليم الذي يطاول مئة ألف شاب كل عام.
وبعد إغلاق شامل للمدارس منذ مارس/آذار حتى الصيف، لا يتلقى الطلاب دروسا إلا بمعدل يوم واحد كل يومين، الأمر الذي يزيد الوضع سوءا في الأحياء الأكثر تهميشا.
ويبدو الحل الأمني الوحيد المتاح حاليا خشية تصاعد التوترات. وتكثفت الدعوات إلى التظاهر الثلاثاء. وعبر الاتحاد العام التونسي للشغل (لمركزية النقابية) إزاء "صمت" السلطات مع دعوته إلى وقف الاحتجاجات الليلية.
ورغم أنه انتخب في العام 2019 بدعم من قاعدة شابة متكئا على شعبية واسعة، فإن الرئيس التونسي قيس سعيد يلتزم الصمت.
أما رئيس البرلمان راشد الغنوشي الذي يتزعم حركة النهضة الإسلامية، فاكتفى بمنشور مقتضب على موقع فيسبوك قال فيه "حفظ الله تونس".
ويبدو رئيس الحكومة هشام المشيشي في وضع صعب، فالتعديل الوزاري الواسع الذي أعلنه السبت لا يزال ينتظر موافقة برلمان منقسم.
وأوضح فيرمورين أن "الطبقة السياسية تعاني الانقسام من جهة وتواجه من جهة أخرى أزمة اقتصادية غير مسبوقة"، لافتا إلى أن عليها اتخاذ "إجراءات بالغة الصعوبة" للحصول على تمويل، مذكرا بأن صندوق النقد الدولي يدفع نحو خفض الدعم على السلع الأساسية.
واتهم بعض المسؤولين السياسيين "أحزابا" لم يسموها بتدبير أعمال العنف لزعزعة استقرار البلاد.
وقال خراط "هناك أطراف داعمون صحيح، لكن لا أعتقد أن ثمة تنسيقا مشتركا. من يستطيع القيام بتعبئة مماثلة؟"، معتبرا أن "نظريات المؤامرة تريح" مطلقيها بدل أن يتصدى هؤلاء للمشكلات في العمق.