انتخابات في ظل مليشيات مسلحة وغياب الدولة
ت
عوني القلمجي
انتخابات في ظل مليشيات مسلحة وغياب الدولة
تجنبا للتضليل والاستهزاء بعقول الاخرين، لابد من التاكيد على ان الانتخابات، لا تعني الديمقراطية، ولا تمنح اي نظام حاكم صفة الديمقراطية، وانما هي احدى اليات النظام الديمقراطي. بمعنى اخر فالنظم الديمقراطية، كمصطلح سياسي غربي، وعلى وجه التحديد يوناني، لا تعني الانتخابات فحسب، كما يروج المحتل الامريكي واجهزة اعلامه، وانما تعد واحدة من اليات النظام الديمقراطي، التي اهمها الفصل بين السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية وسيادة القانون والمساواة بين الناس بصرف النظر عن الجنس والدين والمذهب واللغة. وهذه بمجموعها غير متوفرة في العراق المحتل الا من حيث الشكل. ناهيك عن غياب ابسط شروط الانتخابات في العراق ومواصفاتها من حيث النزاهة والشفافية، فقد رافق جميع الانتخابات السابقة، التزوير وشراء الاصوات واستغلال فتاوى ايات الله وتوزيع المقاعد والمناصب مسبقا على قاعدة المحاصصة الطائفية. بالمقابل فان ما يسمى بالدستور العراقي الدائم، قد اقر نظام المحاصصة الطائفية لادارة الحكم "الديمقراطي" في العراق التي تتعاكس كليا مع اي نظام ديمقراطي في ادنى اشكاله وصوره. يضاف الى ذلك، فان القانون الدولي والمواثيق التي اقرتها الامم المتحدة لا تعترفان بالانتخابات التي تجري في ظل الاحتلال، ولا ما يحدثه المحتل من متغيرات في شكل النظام السياسي او الاقتصادي او الدستوري. ولكي لا نطيل فانه لا يجوز الخلط بين الانتخابات والنظام الديمقراطي. فاجراء انتخابات دورية في بلد ما لا يعني بالضرورة ان النظام اصبح ديمقراطيا.
المناسبة هنا تخص الانتخابات المبكرة التي جرى تاجيلها عدة شهور، رغم التاكيدات المتواصلة على اجرائها في موعدها المحدد. فبالاضافة الى ابتعادها عن اية صفة او صلة بالانتخابات التي تحدثنا عنها قبل قليل. فهي تهدف اولا واخيرا الى الالتفاف على الثورة العراقية، التي كان من بين مطالبها اجراء انتخابات مبكرة، في محاولة بائسة لاستغفال العقل العراقي، حيث تناسى هؤلاء الاشرار بقية الشروط التي يجب توفرها قبل اجراء الانتخابات واهمها، اصدار قانون للاحزاب يتضمن حرمان اية جهة سياسية او حزب ساهم في العملية السياسية التي وضعها المحتل من الاشتراك في الانتخابات المبكرة. بمعنى اخر، فان الهدف المركزي الذي يكمن وراء الانتخابات المقبلة، لا علاقة له بارساء نظام ديمقراطي خال من الفساد والمليشيات المسلحة كما يدعي الكاظمي. فهذه ترهات باتت مكشوفة. بالمقابل فان محاولات منح هذه الانتخابات ميزة وطنية مختلفة عبر اعادة انتاج اراء وطروحات جرى التخلي عنها، لضعفها وهشاشتها، امام التحليل السياسي الدقيق والمقنع هي محاولات فاشلة، والمقصود هنا اكذوبة التوجه الامريكي عبر رجلها مصطفى الكاظمي لطرد النفوذ الايراني وانهاء دور المليشيات المسلحة وانهاء الفساد الخ، وفق مقولة عدو عدوي صديقي. وكان الاحتلال الايراني قد تمدد نفوذه في العراق بغفلة من الزمن، وليس بعلم الامريكان ومباركتهم، كونه يخدم المخطط الامريكي لتدمير العراق دولة ومجتمعا.
ولكي لا نطيل اكثر، فان الانتخابات في العراق هي اكذوبة مفضوحة، وان المشاركة فيها هي بمثابة الاعتراف بمشروعية العملية السياسية، كون الانتخابات احد اعمدتها، وفي نفس الوقت اعطاء الحق لذات الوجوه الكالحة التي ستفوز حتما، لمواصلة سرقاتهم من جهة، وخدمة مشروع الاحتلال وتكريسه لعقود طويلة من الزمن من جهة اخرى. ولسنا بحاجة لمرافعات عالية المستوى لنثبت عدم جدوى هذه الانتخابات، بقدر ما نحتاج الى حسبة بسيطة، او حسبة عرب كما يقال. فمن جهة فان النتائج الماساوية التي افرزتها اربع تجارب انتخابية سابقة اثبتت بان الانتخابات في العراق لم تجر من اجل بناء نظام ديمقراطي يخدم العراق واهله، وانما جرت من اجل توفير الية سياسية ذات صفة ديمقراطية تمكن امريكا من حكم البلاد بطريقة غير مباشرة، بعد فشلها في تحقيق ذلك عبر الحاكم العسكري جي كارنر، ثم الحاكم المدني بول بريمر. واذا لم يكن الامر كذلك لكان علينا جميعا تصديق مقولة الامريكان، بانهم جاءوا الى العراق محررين وليس محتلين. هذه هي الحقيقة واي خلاف حولها يعد، اما سذاجة سياسية، او لتحقيق اهداف ذاتية او فئوية ضيقة.
بمعنى اخر فان الانتخابات المقبلة لن تكون سوى نسخة اكثر ابتذالا للانتخابات التي سبقت. واذا حدث وتمخضت عن تغيرات او اصلاحات محدودة ، لذر الرماد في العيون، او لغايات في نفس المحتل، فانها لن تغير من الامر شيئا. فقانون الانتخابات، على سبيل المثال لا الحصر، الذي وضعه الحاكم المدني للعراق بول بريمر بعد الاحتلال، وجرت بموجبه الانتخابات السابقة، والذي لا يزال معمولا به لحد الان رغم محاولات تزويقه، لا ينتج عنه غير فوز هذه الكتل والطوائف الحاكمة والسراق والحرامية والمجرمين. حيث ينص هذا القانون على توزيع جميع المقاعد في البرلمان على الكيانات السياسية من خلال نظام للتمثيل النسبي. وبالتالي ليس غريبا ان ينتج عن هذا القانون حكومات سداها المحاصصة الطائفية ولحمتها خدمة مشروع الاحتلال الامريكي، وتنفيذ اجندات ملالي طهران . اما الية عملها فهي تستند على سرقة المال العام والفساد الاداري والمالي وارتكاب الجرائم والموبقات.
الغريب هنا، هو اصرار بعض السياسيين والاقلام الوطنية على اضفاء ما يشبه المصداقية على اكذوبة الانتخابات، بصرف النظر فيما اذا كانت النوايا حسنة ام سيئة، ففي الوقت الذي توصل فيه عامة الناس الى قناعة بعدم جدوى الاشتراك بالانتخابات، جراء ما انتجته الانتخابات الاربعة السابقة من عملاء ومجرمين وقتلة وحرامية ومزوري الشهادات، يدعو العراقيين كافة، وبكل حمية وما ملكت ايمانهم من قدرات، للمشاركة في هذه الانتخابات تحت ذريعة تمكين الوطنيين الشرفاء من الفوز في مجلس النواب وتشكيل حكومة، او قوة رئاسية ناعمة، على حد تعبير احدهم، تنقذ العراق من محنته وتقيم لاهله الجنة الموعودة التي تفيض لبنا وعسلا، حتى خيل لنا لبرهة من الزمن، بان هذه الانتخابات المقبلة، لن تجري، كما في السابق، تحت اشراف حكم يدار من قبل السفير الامريكي تارة والسفير الايراني تارة اخرى، ويستند على دستور وقانون انتخابات يكرسان اسس الطائفية والعرقية في مؤسسات الدولة والمجتمع، وانما ستجري في ظل حكم وطني مستقل وبلد ذي سيادة، وفي ظل دستور متوازن وقانون انتخابات حضاري، اساسه العدل واليته النزاهة والحرية والكفاءة، او اختيار الرجل المناسب في المكان المناسب.
اما اكثر ما يحزن في هذا المجال، دعوة البعض لثوار تشرين للاشتراك بالانتخابات من خلال تنظيم قائمة او تشكيل حزب سياسي. في حين ان الثورة طالبت باسقاط العملية السياسية برمتها من حكومة عميلة وبرلمان مزور وانتخابات تجري في ظل غياب الدولة وحكم المليشيات المسلحة الموالية لايران، وقدمت على هذا الطريق مئات الشهداد والاف الجرحى. بل ذهب البعض ابعد من ذلك مروجا لمقولات من قبيل السياسة فن الممكن، او التصرف بالعقل وليس العواطف، او عدم تجاهل القوة الضاربة للمحتل وللحكومة العميلة، ليصل في نهاية المطاف الى القول بان مقاطعة الانتخابات لا تجدي نفعا، وان استمرار الثورة قد يؤدي الى مزيد من سفك الدماء. وبالتالي علينا الاستسلام للامر الواقع. في حين ان كل هذه المقولات تتعاكس مع صحة هذه الثوابت الوطنية من جهة، ومن جهة ثانية تتجاهل تجارب شعوب الارض قاطبة التي اثبتت صحتها، وعبر مراحل التاريخ المختلفة. ومن ابرزها ان الشعوب قادرة على انتزاع حقوقها المشروعة مهما بلغ اعداؤها من قوة وباس.
ان احد الخيارات لطرد هؤلاء الحرامية والفاسدين، واسقاط العملية السياسية برمتها واقامة حكومة وطنية تعيد للعراق استقلاله وسيادته الوطنية وتحقق للشعب العراقي كامل مطالبه المشروعة هو مقاطعة الانتخابات، كونها تنزع الشرعية عن هؤلاء الفاسدين التي يتمترسون خلفها. الامر الذي يدعونا جميعا الى المساهمة في تبصير الناس بجريمة الاشتراك في هذه الانتخابات. اما توكيل ثوار تشرين القيام بهذه المهمة لوحدهم ودحض زيف هذه المحاولات، فهذا يعد نوعا من التجني والظلم. خاصة وان الشعب العراقي قد ضاقت به سبل الحياة وانهكت قواه الة الدمار والقتل من جهة، وتاثره بالحملات الاعلامية المضللة والوعود الكاذبة من جهة اخرى. ناهيك عن ترويج حالة الياس بين صفوف الناس جراء تراجع ثورة تشرين للاسباب المعروفة.
ايها الناس، قاطعوا الانتخابات، فهي رجس من عمل شياطين امريكا وملالي طهران. فالاشتراك في الانتخابات، يعني لا محال التوقيع بالعشرة على شرعيتها اولا، رغم اعوجاج قانونها وطائفية لجانها وانحياز مفوضيتها وتواطؤ المشرفين على صناديقها. ويعني ثانيا، المصادقة مقدما على نتائجها، التي ستكون زورا لصالح ذات الوجوه الكالحة. واذا فازعدد من المرشحين المستقلين. فلن يكون حالهم افضل من اسلافهم، الذين فازوا في الانتخابات السابقة، ثم ضاعت اخبارهم ولم نسمع عنهم شيئا. او في احسن الاحوال، لا هشوا ولا نشوا كما يقول العراقيون.
عوني القلمجي
22/1/2021