استغلال وتحرش وجريمة.. تفاصيل مثيرة عن تسول الأطفال بشوارع بغداد
ت
سنار حسن-بغداد:تجلس سعاد محمود (44 عاما) "اسم مستعار" وسط شارع في حي الكرادة (وسط العاصمة بغداد)، يوميا من الساعة السابعة صباحا إلى التاسعة مساء تراقب حركة المارة من الأشخاص والسيارات؛ لتمد يديها بانتظار من يرفق بها وبطفليها أواب (10 أعوام) وحنين (6 أعوام) بالقليل من النقود، لتتمكن من جمعها ودفعها لصاحب منزل لم يكتمل بناؤه، كان قد وفره لها مع 3 عوائل نازحة أخرى، بعد نزوحها من الموصل (شمال العراق) بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على أجزاء واسعة من المحافظات الشمالية عام 2014.
لجأت سعاد بعد وفاة زوجها وهروبها مع طفليها من الموصل إلى محافظة دهوك (شمال العراق)، وبقيت هناك سنتين في مخيمات النازحين، بعدها قدمت إلى بغداد في محاولة للحصول على عمل؛ لكنها فشلت، وهي تعيش الآن في منطقة الشيخ عمر ببغداد.
بداية التسول
تقول سعاد "عند وصولي إلى بغداد كان هناك شخص يساعد في تأمين السكن للنازحين مقابل مبالغ مالية، وعرض علينا اللجوء إلى التسول مع الأطفال، في البداية رفضت إشراك أطفالي خوفا من تعرضهم لأي خطر، بعدها أصبحت مُجبرة، فأنا أخرج يوميا، ولا أتمكن من الحصول سوى على مبلغ قليل لا يكفي حتى لتأمين قوت اليوم ودفع الإيجار؛ لذلك بدأت باصطحاب أطفالي مع عدد من النساء وأطفالهن، أبقي ابنتي قريبة مني خوفا من أن تتعرض للاعتداء، فهذا شائع بين الأطفال الذين يمتهنون التسول، خاصة أن إحدى العوائل، التي تسكن معنا، تعرض ولدهم (8 أعوام) إلى التحرش الجنسي، ومنذ ذلك الوقت أصبحت أخشى على طفلتي، أما الصبي فأنا مُجبرة على تركه يذهب للحصول على المال، هو كبير بما فيه الكفاية ليدافع عن نفسه".
لم تتمكن سعاد من الحصول على مساعدات الفرق الإنسانية والحكومية ببغداد حتى أنها لا تتلقى الحصص الغذائية، التي تمنحها الجهات الحكومية مقابل مبالغ زهيدة للمواطنين؛ مثل الدقيق والأرز شهريا، لعدم امتلاكها أي أوراق رسمية هي وأطفالها.
أواب وحنين لم يتلقيا التعليم قط ويخرجان كل يوم للتسول في شوارع بغداد بثياب رثة، لم تتمكن من إخفاء جسديهما الهزيلين، ولم تكن كافية لتقيهم برد الشتاء، ملامح جساديهما الطفوليين هي الأخرى طغت على منظرهما، فيبدو أواب أشبه برجل صغير مجبر على التأقلم مع مصاعب الحياة، كما كانت تصفه والدته. وهي تنتظر أن تجد عملا له بدل المخاطرة بتجوله بين السيارات المسرعة، ولا تنوي إلحاق طفليها بالمدارس؛ لعدم امتلاكها المال الكافي لإنفاقه على دراستهما، أو لتوفير أبسط المستلزمات، فوجودهما معها في الشارع يزيد فرصة حصولها على المزيد من النقود، على الرغم من كل شيء، فبراءة وجوه الأطفال لا يمكن صدها من بعض الأشخاص لجذب تعاطفهم.
كانت حنين تمسك بطرف عباءة والدتها عند محاولتي تصويرها، شعرت بالخوف والتردد، وهي تشد على صندوق صغير وضعت فيه القليل من العلكة بخدعة طفولية لجذب المزيد من المارة لمساعدتها أثناء التسول، كان بعض الأشخاص يضع القليل من النقود بدون أخذ شيء من الصندوق.
نتج عن المعارك ضد تنظيم الدولة عام 2017 تهدم عدد كبير من بنى جميع المدن، التي سيطر عليها التنظيم في العراق؛ مما أدى إلى نزوح السكان، ومشاكل اقتصادية واجتماعية وأمنية للمتضررين.
وقد أقرت العديد من المنظمات الدولية في تقاريرها بوجود انتهاكات لحقوق الأطفال، بما في ذلك خسارة فرص التعليم وزج الأطفال في الجماعات المسلحة، والتحرش الجنسي والانخراط في العمل والتسول.
ووفقا لمفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، هناك 1.4 مليون نازح داخليا في العراق، كما أن هناك 3.2 ملايين طفل في العراق غير قادرين على الذهاب إلى المدرسة؛ بسبب عقود من الصراع ونقص التمويل، وفق "منظمة الأمم المتحدة للطفولة" (يونيسيف).
ممنوع قانونا
يقول العميد خالد المحنا من الشرطة المجتمعية في بغداد، "رغم أن الدستور العراقي يمنع عمالة الأطفال؛ إلا أنه من الصعب إنهاء هذه الظاهرة، وغالبا عند إلقاء القبض على ذوي الطفل المتسول يكتبون تعهدا خطيا، ثم يخرجون، ويعودون مجددا لزج أبنائهم في التسول، ومع سوء الأحوال المعيشية أصبحت هذه هي المهنة الوحيدة لهم".
وبعد التحقيق اليومي والتقصي حول نشاط المتسولين لعدة أيام، يأتي الأطفال من كلا الجنسين وتتراوح أعمارهم بين 4 و14 عاما كل يوم السادسة صباحا على شكل مجموعات غالبا، لا يفترقون عن بعضهم، في أماكن يحددها رئيس المجموعة التي تترأس هؤلاء الأطفال، هناك رجل عمره 30 أو 40 عاما يقوم بمراقبتهم في شوارع معينة، وهذا ما أكده موسى عبد (13 عاما) النازح من الموصل، ويعمل بالتسول في بغداد، فيما كانت نقاط السيطرة الأمنية المنتشرة لا تعير أي اهتمام لوجود الأطفال المتسولين.
وقال موسى "إن هؤلاء الرجال يقومون بتوبيخنا كثيرا أو تعنيفنا في حال لم يتمكن أحدنا من الحصول على النقود، وفي بعض الأحيان يهددون عوائلنا بطردهم إلى الشارع، وبذلك لا يبقى لنا مكان لننام فيه، أو حتى لتأمين غذائنا يوميا".
ويرى رواد جبر (30 عاما)، وهو من محافظة الأنبار، وعامل إغاثة في منظمة سويسرية مهتمة بحقوق الأطفال، أن من الحلول التي تتبعها المنظمات لمنع هذه الظاهرة، دراسة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي يتعرض لها النازحون، وإيجاد الحلول لها، وتوفير المنح المالية لعوائل الأطفال المتضررين، والتنسيق مع وزارة التربية والشرطة لتأهيل مساحات مجتمعية للأطفال؛ لمنع التسول وإعادتهم إلى التعليم، والتعاون مع شخصيات مؤثرة في الحكومة المحلية، وتنفيذ مشاريع لإيواء الأطفال؛ مثل تأهيل بعض المباني لاستخدامها لهذا الغرض، مع تنفيذ دورات تدريبية لتعزيز مهارات الكوادر العاملة في مجال حماية الطفل.
ويدعو الناشط المدني، علي فاضل، المنظمات المختصة بحماية الطفل إلى التنسيق مع مديرية التربية والتعليم لعودة الأطفال للمدرسة، حتى ممن فقدوا القدرة على الالتحاق بالمدارس الابتدائية، وتوفير إمكانية التعليم السريع؛ لإرجاع الكبار منهم إلى المدارس، والتعاون في هذا الشأن مع عدد من الشخصيات في الحكومة المحلية والشرطة المجتمعية ووسائل الإعلام".
إعالة الأسر
كرم محمد (14 عاما) بائع محارم ورقية وسط العاصمة (بغداد)، والمعيل الوحيد لأربع من شقيقاته ووالدته، بعد مقتل والده خلال العنف الطائفي، الذي اجتاح البلاد بعد الغزو الأميركي عام 2003، كان يلتحف بطانية قديمة لتقيه برودة الجو، بينما يعرض مجموعة من علب بضاعته على جانب أحد الشوارع، ويبيعها لأصحاب السيارات.
ترك كرم المدرسة الابتدائية منذ 5 سنوات، وبالكاد يعرف القراءة، ويقول "لطالما حلمت بالعودة إلى المدرسة ومواصلة تعليمي مثل كافة الطلاب، الذين يمرون أمامي كل يوم؛ لكن هذا الأمر بات مستحيلا، يجب أن أساعد عائلتي، وربما سأتمكن من الحصول على عمل، أستطيع من خلاله الحصول على المزيد من النقود، في كل مرة أعود بدون أن أبيع شيئا، فإن هذا يعني أنني لن أتمكن من شراء الطعام لعائلتي".
أما مريم محمود (12 عاما)، فهي نازحة من قضاء سنجار (شمال العراق)، قدمت مع والدتها وبقية أخواتها إلى بغداد بعد سيطرة تنظيم الدولة على مدينتها، وهي الآن تمتهن التسول مع مجموعة من الفتيات لتدفع الأموال، التي تحصل عليها، إلى الرجل المسؤول عن توفير العمل لهم.
بينما تتحدث مريم كانت تخفي خصلات شعرها الذهبية بقطعة قماش سميكة، حصلت عليها من إحدى النساء، وتقول "حاول بعض الرجال أن يعطيني النقود مقابل أن يمسك شعري أو وجهي، وعندما أخبرت والدتي بذلك أرغمتني على ارتداء الحجاب، في كل يوم أرى مثل هؤلاء الرجال، الذين يطلقون الشتائم أو التحرش، عندما أطالبهم بمساعدتي".
أجبر العديد من الأطفال على ترك الدراسة والعمل لإعالة ذويهم؛ بسبب الأزمات الاقتصادية، وارتفاع نسب البطالة، مع افتقار الحكومة إلى البرامج التي تركز على مساعدتهم. معظم هؤلاء الأطفال كانوا ضحايا الاحتجاز والملاحقة القضائية؛ بسبب ادعاء ارتباطهم بتنظيم الدولة، وبعضهم كانوا ضحايا التجنيد القسري، وتم استخدام أساليب التعذيب لانتزاع اعترافاتهم بدلا من تقديم الرعاية المناسبة، أو تصنيفهم على أنهم ضحايا العمالة وتجنيد الأطفال.
المصدر : الجزيرة