من أقسى المعارك بين العراق وإيران.. سقوط الفاو عام ١٩٨٦
أحمد الدباغ-الجزيرة: تعتبر الحرب العراقية الإيرانية من أطول الحروب النظامية في العهد الحديث، حيث استمرت 8 سنوات وأدت لمقتل مئات آلاف العسكريين من الجانبين، فضلا عن التكلفة المادية الباهظة التي تكبدها البلدان.
ورغم قساوة هذه الحرب، فإن عملية (الفجر كما أطلق عليها الإيرانيون والتي استولوا فيها على الفاو في 11 فبراير/شباط 1986 كانت من أقسى المعارك وأشدها، حيث استغرق العراق أكثر من عامين بعدها لإعادتها مع سقوط آلاف الجنود العراقيين.
سقوط الفاو
تعرف مدينة الفاو التابعة لمحافظة البصرة على أنها منطقة ساحلية (شبه جزيرة) وتمثل المركز الإداري لقضاء الفاو، تقع في الجنوب الشرقي من محافظة البصرة، وتمثل أقصى نقطة في جنوب العراق وتطل على الخليج العربي وعلى ضفاف شط العرب، وتبعد المدينة عن مركز البصرة 90 كيلومترا.
ويصف رئيس أركان الجيش العراقي السابق الفريق الأول الركن نزار الخزرجي في كتابه (الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988 مذكرات مقاتل) أرض الفاو بأنها رخوة وسبخة وذات مستوى مياه جوفية عالية، إذ تصبح عند تساقط الأمطار أشبه بالمستنقعات، وتغمر المياه الضحلة أجزاء كبيرة منها، عدا المناطق المحاذية لشطّ العرب حيث تمتد بساتين النخيل على شريط طويل، يتراوح عرضه بين كيلومتر وكيلومترين.
تعد سيطرة إيران على الفاو من الأشد صعوبة على العراقيين طيلة الحرب بين البلدين، حيث تعرضت القيادة العسكرية العراقية لخدعة من القوات الإيرانية، بحسب ماجد القيسي مدير برنامج الأمن والدفاع في مركز صنع السياسات للدراسات الدولية والإستراتيجية.
ويضيف القيسي -وهو الذي عمل قبل 2003 ضابطا برتبة لواء ركن- أن إيران عمدت إلى التحشّد في منطقتين، الأولى في قاطع القرنة شرق البصرة وهو المخادع، وآخر تجاه الفاو وهو ما كانت الاستخبارات العسكرية العراقية قد أشارت إليه على أنه الهدف الإيراني الحقيقي.
ويرى الخزرجي في كتابه أن الاستيلاء على الفاو والاحتفاظ بها كان يهدف لعزل العراق عن الخليج العربي وتشكيل قاعدة رئيسية لإيران لشن هجماتها شمالا للاستيلاء على مدينة البصرة وعلى حقول نفط المنطقة الجنوبية، فضلا عن عزل العراق وقطع مواصلاته مع الكويت.
وعن الكيفية التي استولى بها الإيرانيون على الفاو، يعود القيسي ليؤكد في إفادة حصرية للجزيرة نت أنهم استطاعوا صناعة جسر عسكري على الأراضي الإيرانية ثم عمدوا إلى جره بالآليات العسكرية والزوارق باتجاه شط العرب واستخدامه في عبور المشاة والآليات تجاه الفاو، في وقت كانت القوات العراقية المرابطة في المكان آنذاك قليلة وغير قادرة عسكريا على رد الهجوم.
وأشار إلى أن الجسر كان شبه غاطس وغير واضح للقوة الجوية العراقية.
أما قائد فيلق الحرس الجمهوري الثاني العراقي الفريق الركن رعد الحمداني فيشير في كتابه (قبل أن يغادرنا التاريخ) أنه وبعد ترقب عسكري استمر شهرا كاملا وفي تمام الساعة 10 من مساء يوم 9 فبراير/شباط 1986 شن الإيرانيون تعرضا (هجوما) واسعا من منطقة كشك البصري شمالا حتى ميناء الفاو جنوبا، حيث قدرت أعداد القوات المهاجمة بنحو 50 ألف جندي إيراني.
ورغم كل ما حدث فإن القيادة العسكرية العراقية العليا كانت لا تزال تظن أن الهجوم على الفاو كان للخداع فقط، بحسب الحمداني، ما أدى في نهاية المطاف وفي ليلة 12-13 فبراير/شباط إلى سقوط مقر الفرقة 26 للجيش العراقي التي كانت متمركزة في منطقة المملحة بالفاو.
أما الخبير العسكري الضابط في الجيش العراقي السابق مؤيد سالم الجحيشي فيشير من جانبه إلى أن إيران استغلت قناعة العراق بأن القوات الإيرانية كانت ترمي الاندفاع نحو الوسط العراقي، حيث إن العاصمة بغداد كانت تبعد عن الحدود العراقية الإيرانية قرابة 140 كيلومترا، انطلاقا من محور محافظة واسط المسمى عراقيا بـ(بدرة وجصان).
ويضيف أن العراق اعتقد أن الفاو جغرافيا لم تكن تسمح للإيرانيين باستهدافها بسبب الفاصل الطبيعي المتمثل بشط العرب، فضلا عن أن الفاو لم تكن ضمن خط المعارك بين الجانبين طيلة السنوات السابقة لاحتلالها.
وفي شهادته التي أوردها الخزرجي في كتابه يقول "هكذا ضاعت الفاو، وعلى الرغم من أن المخادعة هي مبدأ من مبادئ الحرب، فإن المخادعة التي تعرضت لها قواتنا في الفاو كانت من العيار الثقيل ونُفذت على مستوى دولي، ساهمت معلومات وخرائط الاستخبارات الأميركية المسربة في تحقيقها، لكن كان بالإمكان إجهاض هذه المخادعة الكبرى لو تحرر ذهن هيئتي الاستخبارات والعمليات في الأركان العامة من القناعات المسبقة".
لحظة تاريخية
في غضون ذلك، يشير الحمداني في كتابه إلى أن "الفاو شكّلت معركة المنعطف في الحرب العراقية الإيرانية عند سقوطها بيد إيران وعند تحريرها في عمليات رمضان مبارك في 17 نيسان/أبريل 1988".
ويضيف أن القيادة العراقية لم تقتنع بأن الهجوم على الفاو كان الهدف الرئيسي للإيرانيين إلا بعد 5 أيام على بدء اكتساح الإيرانيين للمدينة، وأن قرابة 1500 جندي عراقي كانوا قد وقعوا في الأسر حتى 13 فبراير/شباط 1986.
محاولات عديدة نفذها الجيش العراقي والحرس الجمهوري من أجل استعادة السيطرة على الفاو بعد سقوطها بأشهر، إلا أنها لم تفلح في التقدم كثيرا وفق الحمداني، بعدها وثّق الحمداني أن القيادة العراقية ومنذ أغسطس/آب 1986 بدأت الإعداد لخطة طويلة الأمد لاستعادتها وتجنب الخسائر الكبيرة التي كانت قد منيت بها القوات العراقية.
استمرت سيطرة الإيرانيين على الفاو أكثر من عامين، ولم تتمكن القوات العراقية من استعادة الفاو إلا في 17 أبريل/نيسان 1988، في عملية أطلق عليها العراقيون (رمضان مبارك) حيث تزامن استعادة الفاو مع بداية الشهر الفضيل.
يقول الضابط في الجيش العراقي السابق مؤيد سالم الجحيشي والذي شارك في معركة استعادة الفاو، إن المُخَطِط الأول للمعركة هو رئيس أركان الجيش العراقي الفريق الأول الركن نزار الخزرجي الذي بدأ تدريب الحرس الجمهوري قبل أكثر من عام على تحريرها وتحديدا في يوليو/تموز 1986.
ويتابع الجحيشي حديثه للجزيرة نت أن الخزرجي استحدث لواء 26 للضفادع البشرية وعمل على تهيئة تضاريس محاكية لبيئة الفاو، ثم أنشأ الحرس الجمهوري مملحة (منطقة ملحية) شبيهة بالفاو وضخ الماء إليها في محاكاة للمد والجزر حيث تدرب الحرس 15 شهرا على المعركة قبل بدئها.
ونتيجة لذلك التحضير، يؤكد الجحيشي أن عملية تحرير الفاو لم تستغرق سوى 36 ساعة فقط، واستخدم فيها العراق أسلوب المخادعة للقوات الإيرانية، حيث إن خطة المخادعة العراقية شملت إرسال قطعات عسكرية كبيرة مموهة إلى شمال البلاد في محور الحدود العراقية الإيرانية في محافظة السليمانية لإيهام الإيرانيين بقرب شن هجوم من هذا المحور.
وبالتالي، حشد الإيرانيون قواتهم بقاطع الشمال في الوقت الذي بدأت القوات العراقية عملياتها لاستعادة الفاو، لافتا إلى أن عدد من سقطوا من العراقيين خلال استعادة الفاو كان بحدود 100 جندي فقط، وبعضهم كان نتيجة قصف عراقي خاطئ.
أما اللواء الركن ماجد القيسي فأطلق من جانبه على عملية استعادة العراق للفاو بأنها (معاقبة الأرض)، إذ إن العراق استخدم خطة مدفعية غاية في الدقة وغير مسبوقة، وشملت إطلاق عشرات آلاف المقذوفات تجاهها، إذ إنه وبعد استعادة الفاو لم يسلم متر مربع واحد في الفاو من قذيفة أو صاروخ أو قنبرة (قذيفة) هاون، وهي الخطة ذاتها التي استخدمت في تحرير جزيرة مجنون (جنوبي العراق) فيما بعد.
أما الجحيشي فيرى أن معركة استعادة الفاو شكّلت بداية نهاية الحرب العراقية الإيرانية، إذ إنه ومنذ عام 1986 بدأ العراق استيراد أسلحة متطورة من الدبابات وناقلات الجنود المدرعة، وكانت جميع الهجمات الإيرانية على العراق بعد احتلال الفاو مسيطرا عليها.
ونتيجة لاستعادة الفاو، استطاع العراق -بحسب الجحيشي- استغلال النصر في الفاو نفسيا وعسكريا واندفع لتخليص جميع الأراضي العراقية الأخرى التي كانت تسيطر عليها إيران، مثل منطقة نهر جاسم وجزيرة مجنون ومن ثم حلبجة في السليمانية (شمال).
وعلى الرغم من أن القيسي أكد أن الضحايا العراقيين في الفاو كانوا كثرا دون تحديد، فإن الحمداني في كتابه أشار إلى أن التضحيات العراقية ما بين سقوط الفاو واسترجاعها كلفت العراق قرابة 53 ألف قتيل في الفاو وحدها.