لماذا يبني الحاكم العربي مجدا لزعماء العالم بظُلمه؟
منذ 5 ساعات
مثنى عبد الله
0
حجم الخط
ضجت وكالات الأنباء ومواقع التواصل الاجتماعي بخبر إطلاق سراح الناشطة المدنية السعودية لُجين الهذلول. ورحب الرئيس الأمريكي بايدن بالحدث بصورة مباشرة وقال «كانت مدافعة قوية عن حقوق المرأة، وإطلاق سراحها من السجن هو الأمر الصائب الذي ينبغي القيام به». مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان غرد قائلا «مسرور للإفراج عن لُجين الهذلول. هذا شيء جيد». الرئيس الفرنسي، والأمين العام للأمم المتحدة، وزعماء وقادة كثر ذهبوا للترحيب كذلك بالخطوة.
في حين قالت شقيقتها للرئيس الأمريكي في مؤتمر صحافي افتراضي «أود أن أقول شكرا لك سيدي الرئيس، لأنك ساعدت اختي على إطلاق سراحها». فهل لُجين مواطنة أمريكية أو فرنسية تم سجنها في السعودية، وسُرّ العالم بإطلاق سراحها؟ ولماذا تتجه شقيقتها لتقديم الشكر والعرفان إلى رئيس الولايات المتحدة وليس إلى القيادة السعودية؟ وهل قرار الإفراج كان سياسيا أم قضائيا؟
يقينا يمكن القول إن الإفراج عن الناشطة السعودية كان سياسيا وليس قضائيا. صحيح أن القضاء السعودي قال إن نصف محكوميتها البالغة 68 شهرا ستكون مع وقف التنفيذ، وهذا يعني أن الإفراج عنها يفترض أن يكون هذه الأيام، لكن الظروف الدولية التي سبقت إطلاق سراحها، خاصة وصول الرئيس الأمريكي بايدن إلى البيت الأبيض، تشي بأن قرار الإفراج عنها كان سياسيا، كما أن هنالك سياسات صدرت من البيت الأبيض مسّت مباشرة السياسات السعودية، منها إيقاف الدعم العسكري للحرب في اليمن، بما في ذلك تصدير الأسلحة والمعدات، وكذلك رفع الحوثيين من قائمة الإرهاب الأمريكية. كما نتذكر جيدا أن الرئيس الأمريكي لم يتورع عن توجيه النقد إلى القيادة السعودية في ملف حقوق الإنسان بشكل خاص، أثناء حملته الانتخابية. وعندما تولى سلطاته صدرت تصريحات من إدارته في الاتجاه نفسه، فقبل أسبوع واحد من قرار الإفراج قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض «إن الولايات المتحدة تراقب مدى تحسين السعودية لسجلها في حقوق الإنسان، بما في ذلك الإفراج عن الناشطين المدافعين عن حقوق المرأة والسجناء السياسيين الآخرين». كما قال مستشار الأمن القومي الأمريكي الجديد، إن الادارة الجديدة ستجعل حقوق الإنسان قضية مركزية في موقفها من الرياض. ولو أضفنا ماقالته رئيسة الاستخبارات الوطنية في جلسة أمام الكونغرس، من أنها ستكشف تقرير الاستخبارات الخاص بقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، فإن كل ذلك يشير إلى حجم الضغوطات السياسية التي تعرضت لها المملكة، وبالتالي انعكس على قرار الإفراج عنها ليكون قرارا سياسيا وليس قضائيا.
إن الممارسات السياسية التي تصدر عن الحاكم في غالبية دولنا العربية، تشكل عوامل طاردة للوطنية، لا جاذبه لها. فالوطنية الفاعلة تحتاج إلى عملية تدريب تتأسس على كسر حواجز الخوف، وإشاعة حرية الرأي والنقد البناء الفاعل. لكن النظم العربية صفّحت نفسها بمجموعة من الأساطير، حتى وصلت إلى درجة القداسة التي من المحرمات المس بها، وأن الباطل لا يأتي من بين أيديها أو خلفها. كما أنها احتكرت العمل السياسي وأبعدته عن أن يكون مشروعا للتغيير، وفعلا اجتماعيا يتشارك فيه الجميع، حاكما ومحكوما، سلطة ومعارضة. واستعاضت عنه باعتقاد معطوب هو مخاطبة الجمهور مباشرة، وتحشيدهم وتجييشهم بوسائل دغدغة العواطف والتملق، من أجل كسب ود مؤقت لقضاء أعمال مرحلية لا منهجية، إضافة إلى أنها حاربت الأحزاب والنقابات والجمعيات المدنية، ووسائل الإعلام المستقلة، فأفقدتها دورها كوسائط تمتص الرجات الكبرى في المجتمع. وبذلك وصل الوضع داخل مجتمعاتنا إلى حالة صراع مباشر بين سلطة الحاكم والمجتمع، فقادنا إلى كوارث اجتماعية واضمحلال للقيم الوطنية. وهنا جلب الحاكم العربي الخزي إلى نفسه، لأنه هو من مارس سياسة حرمان شعبه من أبسط الحقوق والضروريات الأساسية لحياة كريمة. وجلب العار لنفسه لأنه مارس التمييز بين أبناء شعبه. كما جلب الخزي والعار إلى نفسه أيضا بإجبار شعبه على الصمت، وإشاعة الخوف منه، ظنا أنه يكسب بها احتراما وانحناء له.
فأي موقف بائس ذلك الذي وضع الحاكم العربي فيه نفسه، وهو يسمع أبناء شعبه يقدمون الشكر والثناء لزعيم دولة أخرى، لأن الضغط الذي مارسه هذا الأخير عليه أجبره على إطلاق سراح مواطن، سُجن لأنه طالب بحق بسيط من حقوق الإنسان؟ وأين يرى منزلته بين الزعماء الآخرين، وهم يطالبونه علنا بأن يُحسّن من سجل حقوق الإنسان في دولته فيرضخ لهم؟ كيف سيكسب احترام شعبه وهو الظاهر أمامهم بهيئة المضغوط عليه، والمسلوب الإرادة أمام زعماء العالم؟ وكيف سيتخلص من الاستثمار السياسي والابتزاز من قبل القوى الدولية، في سجل حقوق الإنسان لديه؟ فقضية لُجين على سبيل المثال لم تنته بعد من أجندات الدول الأخرى، فالانتقادات الأمريكية والغربية للسلطات السعودية في مجال حقوق الإنسان ستبقى سيفا مسلطا عليها، لان لُجين واحدة من عشرات، وربما المئات من أخرين. الانفراج الذي حصل في ملف هذه السيدة سيقود آخرين لديهم ثأر مع الحاكم إلى الضغط في ملف الصحافي جمال خاشقجي أيضا، وربما يُعاد فتحه من جديد، كما وعدت بذلك رئيسة الاستخبارات الوطنية الأمريكية مؤخرا. هنالك أصوات كثيرة في الإدارة الأمريكية الحالية والكونغرس يرون أن ملف حقوق الإنسان أكبر من قضية لُجين، بل يشمل أيضا حرب اليمن، وإذا كان صانع القرار السعودي يُعلن أن قرار الإفراج عن هذه المواطنة لم يكن استجابة لضغوط أمريكية فمن يُصدّق ذلك من شعبه؟
- اقتباس :
- الوطنية الفاعلة تحتاج إلى عملية تدريب تتأسس على كسر حواجز الخوف، وإشاعة حرية الرأي والنقد البناء الفاعل
قد يُمني الحاكم العربي نفسه بأن الاستجابة للضغوط الأمريكية في هذه القضية وقضايا أخرى لابد أن يقابلها رد فعل حسن منهم. لكن ذلك ليس شيئا ثابتا في السياسات الدولية، لأنه غالبا ما تكون استجابة الضعيف مدعاة تنمّر أكبر من القوى الخارجية، ومطالبات أخرى بتنازلات أهم وأخطر، بدلالة ما قام به الرئيس الراحل معمر القذافي، حينما انصاع لكل الضغوط، وفي الأخير كان رد الفعل بشعا كما عرفه العالم أجمع. ونسمع اليوم كثيرا من المقربين من بايدن وإدارته الجديدة، أن هنالك إعادة تقييم لعلاقات واشنطن مع الكثير من حلفائها، وسيدخل ملف حقوق الإنسان كأحد المجالات التي يتم النظر فيها لغرض التقييم. والخشية كل الخشية من أن يتحول من يقبعون في السجون العربية إلى أدوات مساومة مبكرة محتملة بين إدارة بايدن وحكامنا، فلا بايدن وإدارته والغرب صادق في قضية حقوق الإنسان، ولا الحاكم العربي قادر على إعادة النظر بسياساته المعطوبة مع أبناء شعبه. فحقوق الإنسان اتخذت منحى آخر في هذه السنين. كانت في الماضي داخل كيان إطاره وطني، اليوم حقوق الإنسان باتت عابرة للكيانات الوطنية، إنهم يقولون لك اليوم إن حقوق الانسان أعلى من حقوق المواطنة. بمعنى أنا أملك الحق في أن أتدخل كي أدافع عن شعبك بتعلّة أنني أدافع عن حقوق الانسان لانها منتهكة في ديارك. وبذلك يكون الحاكم العربي هو من يقدم فرص الاستثمار الكبرى للقوى الدولية في بلادنا بجهله بأصول الحكم، كما يبني مجدا لزعماء العالم، الذين يبحثون عن تحقيق مصالحهم على حساب حتى دمائنا، بظلمه.
نعم سيبقى المحرمون والمهمشون والمعتقلون والمعذبون في أرضنا العربية، يقولون، شكرا وألف شكر لبايدن وماكرون وغيرهما من زعماء العالم، كلما فتح هؤلاء ملفاتهم علنا بوجه الحاكم العربي، وأمروه بأن يتنازل فيتنازل. فمن يستطيع أن يقول لمظلوم أن لا تصرخ؟ ومن يستطيع أن يقول لمُعذّب لا ترفع يدك تحية لمن أنقذك؟
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية