العراق: عودة الى لغة الصواريخ.. والاطراف السياسية منشغلة في خدمة الاجندات الخارجية
د. سعد ناجي جواد
العراق: عودة الى لغة الصواريخ.. والاطراف السياسية منشغلة في خدمة الاجندات الخارجية
مرة اخرى تشتعل سماء العراق بصواريخ اطلقت على مواقع مختلفة في اربيل من قبل مجاميع مسلحة لم يتم تحديدها الى حد اللحظة. الصواريخ استهدفت موقعين، الاول قاعدة عسكرية في مطار المدينة، والثاني قاعدة حرير التي تأوي قوات امريكية. وهذه الهجمات تاتي بعد هجمات سابقة طالت السفارة الامريكية في بغداد وقواعد عسكرية اخرى في العراق تستخدمها القوات الامريكية، وكذلك المنطقة الخضراء التي توجد فيها السفارة ومركز الدولة العراقية. لقد اظهرت الهجمات الاخيرة مرة اخرى هشاشة الوضع الامني في البلاد وعجز الاجهزة الامنية عن حفظ الامن. كما انها اظهرت ان ادعاءات قادة اقليم كردستان العراق بانهم نجحوا في جعل مناطقهم امنة ومستقرة لا يوجد ما يسندها. والاهم من كل ذلك فان هذه الهجمات اثبتت ان الوجود العسكري الامريكي في العراق هو وجود مهلهل ولا يستطيع ان يحمي نفسه.
الملاحظة الاخرى التي يمكن تسجيلها على الحدث هي ان رد الفعل الامريكي عليها جاء باهتا، او بصورة ادق غير مهتما، الامر الذي يمكن تفسيره بانه ينسجم مع ما قيل في الصحافة الامريكية بعد انتخاب السيد بايدن والذي مفاده ان العراق لم تعد له اية اهمية تذكر في داخل الادارة الامريكية الجديدة. فاغلب الطاقم الذي اختاره الرئيس بايدن يتكون من الاشخاص الذين كان لهم دورا في توقيع الاتفاق النووي مع ايران في فترة حكم الرئيس اوباما، والتي كان هو فيها نائبا. ثم ان الرئيس الجديد مشغول بشكل كبير في التعامل مع تركة ترامب الثقيلة داخليا، (انتشار الوباء ثم اضيف الى ذلك الكارثة الطبيعية التي ضربت بعض الولايات وخاصة تكساس وردم الهوة داخل المجتمع الامريكي الخ). اما خارجيا فينصب اهتمامه على امور اخرى يعتبرها اكثر اهمية (مثل مسالة المناخ والعودة للناتو ومحاولة ايقاف حرب اليمن ومحاولة العودة للاتفاق النووي مع ايران لاقناعها بالتوقف عن التصعيد في تخصيب اليورانيوم واصلاح ذات البين مع الصين ومع اوربا، الى غير ذلك من الامور التي تاخذ اولوية في تفكير ادارته). كان يجب على سياسي العراق ان يفهموا ذلك جيدا خاصة بعد اعلان الادارة الامريكية الاخير الذي قالت فيه بانها طلبت من قوات التحالف الدولي والناتو ان ترفع عدد قواتها في العراق الى خمسة الاف مقاتل. ولم تقل انها سترسل قوات امريكية جديدة الى العراق.
في المقابل فان الهجمات الاخيرة تؤكد مرة ثانية ان العراق اصبح ساحة الصراع والمواجهة بين ايران والولايات المتحدة الامريكية. وتؤكد ايضا نية ايران استغلال ضعف التواجد العسكري الامريكي في العراق لكي تجبر واشنطن على اعادة النظر بكل القرارات التي اتخذتها ادارة ترامب السابقة ضد ايران، ابتداءا من الانسحاب من الاتفاق النووي وصولا الى فرض عقوبات قاسية عليها. (ويبدو انها نجحت في ذلك بدليل اعلان ادارة بايدن عن النية الى تخفيف او رفع جزءا كبيرا من العقوبات وضرورة العودة للاتفاق). ورب سائل يسال لماذا التركيز على اربيل؟ والرد على هذا السوال يكمن في امرين، الاول شعور بل واعتقاد القيادة الايرانية بان كلا من الولايات المتحدة واسرائيل جعلا من اربيل قاعدة متقدمة لشن هجوم محتمل على ايران. والثاني الشعور شبه المؤكد لديها بان اسرائيل بالذات كثفت من وجودها ونشاطها في كردستان العراق لشن ضربة جوية بمفردها على مواقع نووية ايرانية لافشال اي اتفاق جديد، او على الاقل جعله لاقيمة له، كما صرحت اسرائيل اكثر من مرة. والبيان الذي صدر عن المجموعة التي استهدفت اربيل كان واضحا في ذلك عندما ذكر ان هذا الهجوم “ كان بمثابة رسالة لبعض السياسيين الكرد انكم تسلكون الطريق الخاطئ فان لم تستقيموا قومناكم بصواريخنا”.
اكثر ما يلفت النظر في كل ماجرى في الايام القليلة الماضية هو ردود افعال الساسة العراقيين سواء في السلطة المركزية (الاتحادية)، او ممثلي حكومة اقليم كردستان العراق. الحكومة المركزية استنكرت واعلنت، كما دابت دائما، عن تشكيل لجنة تحقيقية، التي بالتاكيد سوف لن يسمع احد عن نتائج عملها. رئيس الجمهورية، وبدلا من ان يدعو الى اجتماع يضم القيادات الامنية، التقى (رئيس اركان الحشد الشعبي) طالبا منه العمل على استتباب الامن، وهذا الاجراء بحد ذاته له مدلولات لا تخفى على كل لبيب. ايران بدورها، واغلب الفصائل المسلحة التابعة لها والاحزاب المشاركة في السلطة، استنكروا الهجوم وادانوه. وهذا الامر حدث سابقا ولكن مثل هذا الاستنكار لم يوقف الهجمات المتزايدة على التواجد الامريكي في العراق.
من جانبها فان حكومة اقليم كردستان العراق، وبدلا من معالجة هذا التطور الخطير من خلال دعوة الى تعاون وثيق مع السلطة المركزية والقوات المسلحة العراقية لمواجهة هكذا تهديدات، اطلقت دعوات واثارت قضايا بعيدة كل البعد عن ماجرى. فمثلا شددت الادارة على ضرورة تطبيق المادة (140) من الدستور التي تتحدث عن اجراء استفتاء في المناطق التي اعتبرت من قبل من وضع هذه الوثيقة السيئة بانها (متنازع عليها). وبغض النظر عن هذه التسمية المشئومة التي تحرض على تقسيم البلد اكثر مما هو ممزق، فان هذه المادة هي في الاصل مزورة ولم تكن ضمن المواد التي تم الاستفتاء عليها، واضيفت مع مواد اخرى الى الدستور بعد التصويت عليه. الدعوة الاخرى التي اطلقتها ادارة الاقليم كانت لتدويل المشكلة، وذلك عن طريق الطلب من المجتمع الدولي ومجلس الامن للتدخل (لضمان حقوق الاقليم)، مع العلم ان الدستور حقق ذلك. واخيرا مطالبة الحكومة العراقية بدفع مستحقات مالية يطالب بها الاقليم ويدور حولها نقاش طويل. وكعادتها فان الادارة ارادت استغلال هذه الحادثة لكي تحقق مصالح ضيقة اعتقادا منها بانها ستوصلها الى نتائج توفر لها المزيد من الاستقلالية عن المركز وبضمانات دولية، وفاتها ان المجتمع الدولي لم يعد مهتما بذلك كما كان عندما اراد ان يحتل العراق ويمزقه، اما وان هذا الهدف قد تحقق بعد عام 2003، وبمساعدة السياسيين الذين تسلموا زمام الامور بعد الاحتلال ولمدة 18 عاما، فلم يعد هناك اهمية لاسترضاء اي طرف سياسي داخل العراق، كما انه لا توجد حاجة لوضع خطط خارجية لتمزيق او اضعاف العراق طالما ان سياسييه يقومون بهذه المهمة على اكمل وجه.
المشكلة التي يعاني منها العراق اليوم تتمثل في ان كل طرف من الاطراف المشتركة في العملية السياسية يعتقد ان اعتماده على دعم طرف خارجي يوفر له القوة الكافية للبقاء في الحكم والاستئثار بموارد البلاد عن طريق الفساد. وهكذا فان ايران والولايات المتحدة واسرائيل وبعض دول الخليج وتركيا وغيرها من الاطراف المتنفذة في العراق لم تعد بحاجة لكي تبذخ الاموال والمغريات لكي تكسب اطرافا في العملية السياسية، وانما هذه الاطراف هي الان من يهدر ثروات العراق ويقدمها لاطراف خارجية بطرق مختلفة لكي تكسب هذه الاطراف الخارجية الى جانبها لكي تدعمها في البقاء في الحكم وادامة الفساد وكتم انفاس المعارضين،
ان كل الدلائل في هذه الايام تشير الى ان اتفاقا امريكيا ايرانيا قد يحصل في الايام القادمة، والخوف كل الخوف الان هو ان يكون هذا الاتفاق على حساب العراق وكيانه واستقلاله وسيادته.
السوال الاهم هو هل يدرك سياسيو العراق اليوم، عربا واكرادا، حقيقة ما يجري؟ وهل سيدركون يوما ما الحقيقة الثابتة التي تقول ان العراقيين وحدهم هم اصحاب المصلحة الحقيقية في الحفاظ وحدة وقوة وامن واستقرار العراق؟ وان هذا الامر لن يتحقق الا بالتعاون فيما بينهم لبناء عراق موحد، متماسك وديمقراطي حقيقي يكون السلاح فيه محصور بيد الدولة ويعيش جميع ابناءه في داخله بامان ورفاهية. يجب الاعتراف مسبقا انه لا يوجد في الافق ما يشير الى وجود مثل هكذا قناعات لدى سياسي اليوم، على الرغم من ان كل التجارب التاريخية تقول ان الدعم الخارجي مهما كان كبيرا سوف يتوقف وينتهي او ينقلب على من يعتمد عليه اذا حققت الاطراف الخارجية اهدافها ومصالحها.