واقع الفلسطينيين في العراق بعد الاحتلال.. وماذا قال مدير جامعة بغداد عندما شاهد خارطة فلسطين.. ولماذا لم تعترف حكومات ما بعد الاحتلال باسرائيل؟
د.سعد ناجي جواد
واقع الفلسطينيين في العراق بعد الاحتلال.. وماذا قال مدير جامعة بغداد عندما شاهد خارطة فلسطين.. ولماذا لم تعترف حكومات ما بعد الاحتلال باسرائيل؟
يعود تاريخ الوجود الفلسطيني في العراق الى عام 1948 عندما تم تهجير الشعب الفلسطيني قسرا من قبل العصابات الصهيونية، حيث تم نقل عدد من العوائل الفلسطينية من قبل الجيش العراقي المنسحب. وتم ايوائهم في معسكرات الجيش في البداية ثم تم توزيعهم على مخيمات في بغداد والموصل والبصرة. واتذكر جيدا وانا طفل صغير احد هذه المخيمات والذي كان يقع في منطقة البتاوين وسط العاصمة بغداد، وكان يقع مقابل مساكن اثنين من اعمامي. وكنا نلعب انا وابناء عمومتي مع اطفال منهم بعمرنا.
قُدِر عدد الفلسطينين الذين نقلوا الى العراق انذاك ب 3500 شخصا. ثم اضيف لهذا العدد بعض من الذين نزحوا بعد هزيمة عام 1967، ثم اضيف لهم عوائل هربت من الكويت في فترة 1990-1991 حيث اتهموا بتاييد القوات العراقية التي اجتاحت الكويت. في بداية القرن الحالي قدر عدد الفلسطينيين في العراق بخمسين الف شخص.
منذ البداية تمت معاملة العوائل الفلسطينية معاملة العراقيين ودخلوا المدارس وتعلموا وخدموا في الدولة العراقية كموظفين او عملوا في الاعمال الحرة. واستغرق الامر بعض سنين حتى يحصلوا على حقوق مدنية تشابه تلك التي يتمتع بها باقي العراقيين. والسبب في ذلك ليس لشعور بالتفرقة العنصرية وانما لان الفكرة الرسمية كانت تقول ان هذه العوائل تسكن العراق بصورة موقتة وعلى اساس انهم سيعودون الى ديارهم باقرب فرصة، وبالتالي فان هولاء النازحين يجب ان لا يُمنحوا ما يجعلهم يتناسون التفكير بالعودة الى ديارهم.
في بداية العهد الجمهوري (1958) عمل رئيس الوزراء بعد الكريم قاسم على بناء دور بسيطة للاجئين الفلسطينين، وشكل ما عرف بجيش تحرير فلسطين وامر بتوفير تدريب عسكري لمنتسبيه.
لا احد يستطيع ان ينكر حتى وان اختلف مع نظام حزب البعث في العراق ان من اهم اسباب احتلال العراق هو موقف النظام السابق من القضية الفلسطينية، ومن الانتفاضات وعمليات الاستشهاد التي شهدتها فلسطين حتى عام 2003، وكيف ان العراق كان يدفع مبالغ نقدية لعائلة من يستشهد او للجرحى الذين يسقطون جراء المواجهات مع القوات الاسرائيلية المدججة بالاسلحة الفتاكة. وبسبب هذه المواقف وضعت الدول التي فرضت الحصار على العراق (الولايات المتحدة وبريطانيا ومن تحالف معهما)، شرطا لرفع الحصار (مع شروط ضرورة تدمير القوة العسكرية للعراق) ينص على ضرورة وقف العراق لاي دعم للشعب الفلسطيني ولقضيته. وكان يقال للقيادة العراقية انذاك (عبر القنوات السرية وبصراحة واضحة) ان اقصر طريق لرفع الحصار وانهاء العقوبات هو الاعتراف باسرائيل وتوقيع معاهدة سلام معها. وللعلم فان العراق هو الدولة الوحيدة التي رفضت توقيع الهدنة مع اسرائيل عام 1948، ورسميا ظل يعتبر انه ما زال في حالة حرب معها. في نهايات القرن الماضي تم بناء مجمعا سكنيا كبيرا (عمارات سكنية) في منطقة الزعفرانية شرقي بغداد وزعت على العوائل الفلسطينية، بالاضافة الى توفير اراضي زراعية للقادرين على العمل في هذا المجال لاستثمارها. وفي عام 2001 صدر قرار عن مجلس قيادة الثورة يحمل الرقم (202) اكد على معاملة الفلسطيني معاملة العراقي في كل الجوانب، لكنه استثنى مسألتي الحصول على الجنسية العراقية وامتلاك العقارات، إلا في حدود ضيقة جداً.
لا اعتقد ان هناك حاجة للقول ان السبب الاساس لاحتلال العراق وتدميره هو الرغبة الاسرائيلية في فعل ذلك. وربما يعتبر البعض القول ان اسرائيل كانت حاضرة ومشاركة في احتلال العراق نوعا من المبالغة. ولكن ومن تجارب شخصية عشتها بنفسي في الايام الاولى للاحتلال استطيع ان اؤكد ان عناصر من الموساد ومن القوات الاسرائيلية كانت حاضرة وتجوب الشوارع مع القوات الامريكية، وتقوم بالتحقيق مع المنظمات الفلسطينية التي كانت تتخذ من بغداد مقرا لها، ومع بعض من يلقى القبض عليهم من مسؤولي النظام البعثي. ولَديَّ من الوقائع ما يؤكد ذلك، ويكفي التذكير انه بمجرد ان وقع الاحتلال تم اعتبار يوم السبت عطلة رسمية، كما تم رفع العلم الاسرائيلي على السفارة الامريكية في بغداد، ولم يرفع الا بعد ان اعترض بعض النواب على ذلك. اما بخصوص الموضوع الذي نتحدث عنه فاستطيع ان اورد الحادثة الدالة التالية.
بعد ان تم الاحتلال وسلمنا بالامر الواقع المؤلم قررنا نحن، اساتذة الجامعات العراقية كافة، ان نستأنف الدوام والقاء المحاضرات لكي لا يخسر طلبتنا سنة دراسية. وبالفعل قمنا وبمبادرات شخصية منا بالتوافد على كلياتنا في نهاية نيسان/ابريل، الشهر الذي احتلت فيه بغداد وبدانا التدريس. لم يبق بعد الاحتلال وزارة اسمها وزارة التعليم العالي التي نهبت عن بكرة ابيها امام انظار القوات الغازية. اما جامعة بغداد وحرمها وموقعها الرئيس في منطقة الجادرية، (والذي يحوي ادارة الجامعة وعدد من الكليات) فلقد جعلت القوات الامريكية الغازية منه معسكرا لقواتها وخصصت احد المداخل لها فقط. وكنا نشهد كل يوم القوات الامريكية تسرح وتمرح وتنتهك كل التقاليد الاكاديمية في هذا الحرم ونحن لا حول لنا ولا قوة. والاكثر من ذلك كنا نخضع لتفتيش الجنود الاميركان عند الذهاب للدوام في كلياتنا. وزيادة في الاهانة فلقد تم تعيين ضابط امريكي برتبة صغيرة مديرا لجامعة بغداد واخر برتبة رائد او مقدم مسؤول بدرجة وزير لوزارة التعليم العالي. في تلك الفترة اقام مركز الدراسات الدولية في كلية العلوم السياسية، الذي تشرفت برئاسته لفترة من الزمن (1989-1993) ندوة عن تداعيات ما حدث في العراق. وكاجراء اعتيادي تم اعلان ادارة الجامعة بهذه الفعالية. وفوحئت ادارة المركز بحضور الضابط الامريكي (مدير الجامعة) ومعه مجموعة من الضباط الاخرين لحضور الندوة. عند دخولهم لاحظ قائد المجموعة خارطة كبيرة لفلسطين حرصت ادارات المركز المتعاقبة على وضعها في المدخل، فتوقف عندها واشار اليها بيده وقال بالانكليزية (هذه الخارطة يجب ان ترفع، لا فلسطين بعد اليوم). وبعد فترة من الزمن تم الغاء مركز الدراسات الفلسطينية التابع لجامعة بغداد ونقل موظفيه الى مركز الدراسات الدولية. وهاتين الحادثتين كانتا دليلا واضحا لمن كان يحتاج الى دليل مضاف عن توجهات القوات المحتلة. ثم بدات الاخبار تتوالى عن مداهمة قوات الاحتلال مناطق سكن العوائل الفلسطينية والقاء القبض على قسم من شبابها بدعوى انهم من انصار النظام السابق. ثم صاحب ذلك حملة شعواء على الدول العربية وعلى كل ما يمت للافكار العروبية بصلة، بدعاوى ان الانظمة العربية كانت تساند النظام السابق، واصبحت صفة الايمان بالقومية العربية سُبة ومدعاة للسخرية من الاحزاب الطائفية والعنصرية التي قدمت مع الاحتلال. وهذه الحالة شجعت المليشيات المسلحة التي انتشرت بعد الاحتلال لكي تهاجم المجمعات السكنية للفلسطينيين وتنزع منهم ممتلكاتهم وتقتل في بعض الاحيان بعض من سكانها بصورة وحشية او تطردهم من مساكنهم. هذه الممارسات اجبرت اعدادا كبيرة من الفلسطينيين الى الهرب باتجاه الدول العربية المجاورة، سوريا والاردن، وعندما لم يسمح لهم بالدخول (بدعوى انهم لا يحملون جوازات سفر)، اضطروا الى اقامة مخيمات في الصحراء على الحدود لتأويهم وعوائلهم، ثم جرى ترحيل غالبيتهم الى دول في امريكا الجنوبية فيما بعد. ولجا قسم اخر الى المحافظات الكردية في شمال العراق حيث اقيم لهم مخيما هناك. ومن جراء الاجراءات التعسفية هذه وغيرها، لم يبق في العراق سوى بضعة الاف من الفلسطينين. ويقال ان العدد المتبقي لا يتجاوز ال 3500-3800 فردا. اغلب المساكن التي كانوا يسكنونها تم طردهم منها وقطعت عنهم كل اشكال الاعانات، وهناك احصائات تقول ان حوالي 700 فردا من هذه الجالية قد تمت تصفيتهم من قبل القوات الغازية ثم قبل مليشيات مسلحة، وفي بعض الاحيان من قبل اجهزة الدولة الجديدة.
وتماديا في اضطهاد هذه الشريحة العربية من قبل حكومات ما بعد الاحتلال تم اصدار قانون جديد في عام 2017 (صادق عليه رئيس الجمهورية السابق فؤاد معصوم) تضمن الغاء القانون 202 والزام الفلسطينين المقيمين في العراق بالحصول على موافقة على الاقامة، وضرورة تجديدها سنويا. كما صدر موخرا قانون اخر يقول اذا ما غادر الفلسطيني العراق وغاب عنه اكثر من ثلاثة اشهر فعليه ان يحصل على سمة دخول (فيزا) جديدة للعودة، حتى وان كان مقيما فيه لعقود سابقة عديدة، او كانت عائلته ما زالت تقيم فيه. وغالبا ما يُسَوف هذا الطلب او يرفض. علما بان رعايا دول اخرى، وعلى راسها ايران يحق لهم دخول العراق والاقامة فيه بدون الحاجة الى سمة دخول.
ان مثل هذه الاجراءات لا يمكن ان تنسجم مع ادعاء الاحزاب السياسية الحاكمة بانها حريصة على التمسك بالحقوق الفلسطينية ومعاداة اسرائيل. بالاحرى انها تنسجم مع ما يتم تداوله بين الاونة والاخرى من اطراف مشاركة في العملية السياسية، ومن كل المكونات، عن ضرورة (انهاء حالة العداء مع اسرائيل وضرورة اقامة علاقات دبلوماسية معها). وطبعا هذا الامر ينسجم ايضا مع ما ترغب به الادارة الامريكية. ورب سائل يسال لماذا لم تقدم اية حكومة من حكومات ما بعد الاحتلال على الاعتراف باسرائيل، خاصة وان اغلب افرادها، عربا كانوا ان اكرادا، يحتفظون بعلاقات جيدة مع قادة الكيان، وزياراتهم للاراضي الفلسطينية المحتلة كانت شبه علنية. يمكن الاجابة على هذا السوال بالقول انه على الرغم من كل الاعتراضات على ما تقوم به ايران في العراق الا انه يجب الاعتراف بانه لولا النفوذ الايراني الكبير على الاحزاب السياسية الحاكمة لاتخذت الحكومة العراقية الحالية، ومن سبقها، قرارا بالاعتراف باسرائيل اسوة بالانظمة التي فعلت ذلك في العام الماضي. قد لا يعجب البعض هذا القول لكنه حقيقة يجب تثبيتها. واصلا فان حرص الولايات المتحدة واسرائيل على محاربة النفوذ الايراني في العراق هو من اجل هذا السبب، وليس بسبب ما يعانيه العراق والعراقيون من تمدد نفوذ المليشيات والفصائل المسلحة التي تاتمر باوامر ايران في العراق.
المشكلة التي لا تلتفت لها ايران ومن يتعاون معها وياتمر بامرها، ان سياسة البطش التي تنتهجها بعض الفصائل المسلحة والفساد الذي يغرق فيه السياسيون الذين تدعمهم يدفع بعض العراقيين الى القبول بنفوذ امريكي جديد، بل وحتى بنفوذ اسرائيلي، معتقدين، غباءا او سذاجة او عن قصد مبيت، ان ذلك يمكن ان يكون المخرج الوحيد المتبقي لهم من معاناتهم. والمشكلة الاكبر ان لا ايران ولا الاطراف الموالية لها يدركون هذه الحقيقة ولا يوجد في الافق ما يدلل على انهم مستعدون لتغيير نهجهم.
كما ذكرنا سابقا ان المخرج الوحيد يبقى مسوولية العراقيين انفسهم، الذين بتكاثفهم وبجهاهدهم ونضالهم يمكن ان يخرجوا العراق من مآزقه ومن كل انواع الهيمنة الخارجية المتسلطة عليهم. فهل سيعون ذلك؟ ام انهم سيدركون الحقيقة متاخرا كما ادركوها بعد الاحتلال، وبعد فوات الاوان وندموا ندما شديدا ولات ساعة مندم.