بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
جاء البابا وذهب، فماذا لو لم يذهب؟
شبكة البصرة
علي الصراف
الدجّالون نصَبوا سرادقَ الاحتفال بمجيء البابا لكي يتطهروا به كما يفعلون عندما يفعلون كل الأفاعيل قبل أن يذهبوا إلى "المراقد المقدسة".
لرسالة المحبة والسلام سحرٌ خاص. ولكن ليس لأنها رسالة السيد المسيح أصلا، بل لأن الكل يحتاجها حتى القتلة. ولقد حملها إلى العراق رجل هو واحدٌ من أقدس مَنْ جسدوا تلك الرسالة، في كل أفعاله، وحيال كل القضايا الإنسانية الكبرى. وما أن وطأت قدماه العراق حتى مسّ الجميعَ شيءٌ من ذلك السحر.
نيران الحرائق انطفأت. وفوهات البنادق صمتت. والاغتيالات توقفت. وبعض مظاهر الخراب تغطت، ربما خجلا. ومرت نسمةُ سلامٍ على نفوس المشردين والثكالى والأيتام. كانت نسمة غريبة. غير مألوفة. نساها العراقيون منذ زمن طويل، فتذكروا أنهم كانوا يوما من غابر الأيام شعباً لا قطعان طوائف. وأنهم بشرٌ يستحقون المحبة لا مجرد مطايا لمصالح عصابات وميليشيات استولت على كل شيء.
الذين لا يؤمنون بأن “الدين أفيون الشعوب” شاهدوا العكس تماما. إذ وجد العراقيون أنفسهم تحت وطأة الخدر اللذيذ؛ خدرٍ يزدحمُ بالأماني الطيبات، وبأن يوما من أيام الغد سيكون يومَ سلامٍ ومحبةٍ دائمين؛ يومَ خدرٍ متواصل.
تساءل الكثيرون في أنفسهم: ماذا لو بقي البابا فرنسيس مدة أطول؟
الجوابُ الذي جاء من خلف ستائر الصحو قال: سيكون سيستاني آخر. فدعوه يذهب، ليبقى من السحر شيءٌ يعلقُ بالذاكرة على الأقل.
لم يظهر في بارز الصورة رجال دين سنة أو يهودا أو صابئة. ذلك أن عراق الولي الفقيه تشيّع. التعددية التي سقطت من الضمائر سقطت من الصورة أيضا. ولئن التقطت عينا بابا الفاتيكان مشاهد النفاق والمزاعم الحضارية والتعددية في الملابس الفولكلورية لراقصي الاستقبال، فإنه بحنكة المُجرّب الذي عرفَ مسالكَ التخلف من أصوله الأرجنتينية، كان يعرف أن الدجل الطائفي الذي ساق العراق إلى ما ساقه إليه، سيظلُ يرسمُ صورا زائفة. تلك هي طبيعته أصلا.
ما كان البابا فرنسيس بحاجة إلى شوارع نظيفة. هو يعرف أن العراق الذي تشيّع تحت سلطة الولي الفقيه وسخٌ وتفوحُ منه رائحةُ فسادٍ يمكنها أن تلوث الكرة الأرضية كلها. وبرحمة من رب العالمين لم يُصبح التشيّع الصفوي ظاهرة بين المسلمين، وظل محصورا على ميليشيات الخميني وخامنئي ليكونوا خداما وخونة. ولم يكن ذلك مجرد مصادفة. الله لا يصنعُ مصادفات أبدا. كل شيء في بلاءاته متقن حتى سلطة القتلة.
تجول البابا في أرجائها، تحيطه هالةٌ من الطمأنينة، بأن القتلة لا يتصرفون كقتلة في حضرته. ولا اللصوص. الكل يكف عما يفعل.
أجواءُ السحرِ الغامر أقنعت مصطفى الكاظمي أن يطرح مبادرةً لحوار وطني شامل. يجمعُ كل القتلة وكل ضحاياهم على طاولةِ سلامٍ ومحبة. كتبها له واحدٌ حاول أن يغازل لغة الخطاب القديم؛ خطاب الرفعة والشموخ، إنما في بلد بات ذليلا وفقيرا وممزقا. قال ما قال من تافه المعاني الفارغة، ولكنه في حالة الخدر ظل معذورا بأن يترنم بما كانت تصدح به البلابل أيام كان العراقُ يريدُ أن يكونَ عراقاً. ولكنه بات بلدا آخر. تصدحُ به التماسيح. وتلعلعُ فيه البنادق. ويسودُ به الجهلة.
لم يلحظ الكاظمي (خطيّة) أن جماعته أنفسهم لا يطيقون بعضهم بعضا. وأنهم يتنافسون على اقتسام المغانم، بما فيها منصبه، لأن راتبه السنوي يتجاوز عشرات الملايين. فكيف لا يطمع به الصعاليك الذين وإن اغتنوا مما نهبوا، إلا أن “العين الجوعانة” تظل جوعانة. ولأن الدجاجة (في العراق) “تموت وعينها على المزبلة”.
ما كان مُهمّاً في حالة الشعر وتغريد البلابل أن يقول الكاظمي: حوار على ماذا؟ أو كيف يمكن الوصول إليه؟ وهو الذي عجز عن أن يحاكم فاسدا واحدا، أو أن يعتقل قتلة الناشطين، إلا عصابة واحدة، قبل أن تشتد عليه الضغوط من أركان العصابات المجاورة كلهم. لأنهم هكذا بمحض “الصدفة” وجدوا أنفسهم شركاء في المسعى لإنقاذ المجرمين من حبل المشنقة. والله لا يصنعُ مصادفات أبدا.
ما كان مُهمّاً أيضا أن يلاحظَ أن النقاش الوطني من أجل الإصلاح قائمٌ أصلا، وأن الملايين من المتظاهرين ظلوا يهتفون به حتى سمعتهم الكواكب الأخرى، وأن حكومته جاءت بفضله، بيد أنها فشلت مثلما فشلت حكومات سابقة. ولكن ماذا تراه يقول غير ذاك وهو في حالة الخدر؟
لم تسع الثقافةُ “رئيسَ وزراء العراق” أن يسأل نفسه ما إذا كان قادرا على تحريك ضفدعة، ولو من بركة آسنة إلى بركة آسنة أخرى من دون أن يستأذن أركان العصابة. ولا وسعته أن يسأل ما إذا كان العراق الذي يقوده يملك من أمره شيئا. أو ما هو جدول الأعمال؟ أو من سوف يتولى تنفيذه؟
نصبَ الدجّالون، وتلك صنعتهم التاريخية بالأساس، سرادقَ الاحتفال بمجيء البابا لكي يتطهروا به. كما يفعلون عندما يفعلون كل الأفاعيل قبل أن يذهبوا إلى “المراقد المقدسة” لكي يتمسحوا بشبابيكها والدم يسيل من أكفهم. فيتزكوا بما نهبوا، ويستغفروا “الإمام” عمّن قتلوا “حبا به” وتقربا. زلفى كزلفى الأصنام إلى ربها. اللات والعزى وهُبل. تلك هي الأئمة الأصل. وذلك هو سبب وجودها: أن ينصب لها “اللطّامون” سرادق الدجل. قبل “الخُمس” وبعده. ليقرأوا “المقتل”. فيبكوا. فتزول غيمة الخطايا عن كربِ النفسِ التي ما كربت إلا ربها بما فعلت.
انتظروه لكي يُنهي زيارته، فيعودوا إلى ما ألفوا. إذ لم يكن من المعقول أن يعيشوا تحت ضغط تزويرٍ طويلِ الأمد. التقطوا كل الصور لتكون برهانا على أنهم تمسحوا بالبركة. وشموا رائحة غير رائحة العفن الذي ظل يفوح على أعطافهم من إيران.
قال البابا إنه يذهب “والعراق باقٍ في قلبه دائما”. ولكنه رأى العراقَ الذي في قلبه فحسب. جاء بسحره ليرى بعض ملامحه. أزال نصابو المهدي المنتظر بعض الأوساخ من الطريق. مهدوا بعض الطرقات التي كان سيمر بها. أقاموا إنارة مؤقتة هنا، وأخرى هناك، لعله لا يرى التشوّه كاملا.
ولكن ناظرا لما في قلبه ما كان ليرى شيئا آخر في جميع الأحوال. ولو أنه بقي في عراق الولي الفقيه، فلربما زالت “التشابيه” عن الطرقات، وقعدَ قعدةَ السيستاني ليتأمل في فراغ الرحمة دونما نقمة عما يرى. دونما صرخة. دونما دعوةٍ إلى ثورة غضب.
سوى أن ذلك ليس من طبع هذا البابا الجليل. إنه بيساريته المشهودة أكبر بكثير من أن يكون صانع أفيون.
خرج من العراق ليبقى في قلبه ذلك العراق الذي لم يُقتل فيه مسيحي واحد؛ عراقٌ كان المسيحيون واليهود والصابئة والإيزيدون جزءا من طبيعته. عراقُ الأكراد والعرب. عراق الطوائف التي لم تعرف خطوطا ولا جدرانا فاصلة. عراق السلام والمحبة.
ولكنه ذهب وبقي عراق القتلة.
كانوا هم أنفسهم بحاجة إلى بعض أفيون جديد غير أفيونهم التقليدي. فوجوده ممتعا. وعادوا إلى ما ألفوا عليه آباءهم وأجدادهم. العرب
شبكة البصرة
الاثنين 2 شعبان 1442 / 15 آذار 2021
يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط