اليوسفية والتفاوض الحاسم
سحبان فيصل محجوب - مهندس استشاري
اليوسفية والتفاوض الحاسم
(١٦٨٠ ميكا واط) هو مقدار سعة الطاقة المؤسسة لمحطة توليد كهرباء اليوسفية الحرارية، تم التعاقد على بنائها في العام ١٩٩٠ مع إحدى كبريات الشركات الروسية المتخصصة في إنشاء مشروعات الطاقة، ونتيجة للظروف الاستثنائية التي عصفت بالعراق توقف العمل فيها كما هو الحال في الكثير من المشروعات الاستراتيجية لقطاعات الدولة المختلفة آنذاك.
في خضم صعوبات العمل ومحاولات العاملين في قطاع الكهرباء التعامل معها بإحلال وسائل وبدائل مبتكرة لأجل ديمومة تشغيل المنظومة الكهربائية الوطنية، حيث سخرت لها إمكانات الدولة المختلفة في مؤسساتها كافة لدعمها بالإضافة الى ما هو متاح من مساهمات القطاع الخاص، إلا أن الحاجة كانت قائمة وملحة إلى إضافة سعات توليد جديدة لتلبي حاجة المواطنين ومرافق المجتمع العامة من الطاقة الكهربائية التي شح إنتاجها نتيجة الإجراءات القاسية للحصار الاقتصادي الذي كان مفروضاً على العراق ما بين سنتي ١٩٩١ و٢٠٠٣.
سنة ١٩٩٦ ومع بداية العمل في تطبيق بنود مذكرة التفاهم الموقعة بين العراق والأمم المتحدة والتي بموجبها تم السماح للعراق بتصدير كميات محددة من النفط لاستغلال عوائدها في توفير الحاجات الأساس للعراقيين من غذاء ودواء وسلع، على أن يكون ذلك بإشراف دولي تتولاه لجنة أممية خاصة شكلت بالاستناد على محتوى القرار الأممي ذي الرقم (٦٦١)، وعلى وفق الأولويات التي كان قد وضعها المعنيون في تنفيذ المذكرة هذه، وتم تخصيص مبالغ متفاوتة لقطاعات الدولة المختلفة والتي لها تأثيرات مباشرة في توفير الخدمات المقدمة للمواطنين حيث كان لقطاع الكهرباء رصيد منها.. هنا شرعت الدوائر المعنية في القطاع في تحديد أولويات توفير المواد والأجهزة بوساطة استيرادها من الخارج تغطى كلفتها من حصته في الموارد المالية للمذكرة، كان من ضمن هذه الأولويات دعوة الشركة الروسية المتعاقدة إلى إعادة العمل وإكماله في مشروع محطة توليد اليوسفية... أجريت هنا العديد من الاتصالات واللقاءات خصصت لحسم الكثير من الجوانب الفنية والقانونية والإدارية حيث أثمرت عن شروع الشركة بتجهيز الكثير من المواد والمعدات مع حضور العشرات من الخبراء والفنيين الروس في موقع المشروع وقد تم التخطيط حينها لإنجاز تشغيل الوحدة الأولى في المحطة وبقدرة ٢١٠ ميكا واط لرفد المنظومة الكهربائية مع بداية صيف سنة ٢٠٠٣.
في العام ٢٠٠١ شعرت إدارة هيئة الكهرباء بوجود مؤشرات تؤكد قيام الشركة الروسية المتعاقدة بمحاولات التملص من الايفاء بوعودها لإنجاز ما تم الاتفاق عليه والمثبت في جداول التوقيتات الزمنية (كنت حينها وزيرا للهيئة)، على إثر ذلك وأثناء وجودي في موسكو استدعيت المسؤولين في هذه الشركة الى مقر السفارة العراقية وبحضور الدكتور عباس خلف (رحمه الله) والذي كان بارعاً في الحديث باللغة الروسية حيث كان يشغل وظيفة سفير جمهورية العراق في روسيا، حضر وفد الشركة أمام أعضاء الوفد العراقي ودارت نقاشات مطولة تخص واقع العمل في المشروع ومراحل تطوره وجرى التفاوض بشأن إمكانية الجانب الروسي في تسريع خطوات الانجاز والعمل المشترك في إزاحة ما يعرقل ذلك وبعد الانتهاء من الاستعراض المسهب لجوانب العمل من الطرفين والذي استمر ساعات وساعات، أعلمنا رئيس وفد الشركة أن طلباتنا كافة سوف تدرس ويجري إعلامنا بالممكن تنفيذه منها وستكون الإجابة بشأنها بعد مدة لا تتجاوز الاسبوع..
انتهى الاجتماع وما ان غادر الوفد الروسي مبنى السفارة حتى لاحظ أحد أعضاء الوفد العراقي سجلاً سميناً للملاحظات (مفكرة) تعود لأحد أعضاء وفد الشركة المفاوض كانت قد تركت سهواً قرب مقعد جلوسه.. حيث اقترح علينا الاطلاع على ما دون فيها من ملاحظات تخص ما دار في الاجتماع... رفضت ذلك بشدة وطلبت من السفير أن يتصل بالشركة لغرض تسليم السجل لصاحبه.. حيث حضر ممثل الشركة وتمت إعادة هذا السجل إليها (لم تتجاوز مدة العثور على السجل ومهاتفة السفير للشركة وعودة ممثل الشركة الى السفارة أكثر من ثلاث دقائق)، في صباح اليوم الثاني وردنا كتاب من الشركة يتضمن الموافقة على طلباتنا كافة من دون استثناء... فهل كانت قوة المفاوض ومستوى الوضوح في التعامل الذي كان إعادة السجل للشركة قبل الاطلاع على محتوياته (الخاصة والسرية) من الدلائل العملية عليها؟ وكان المحفز لانصياع الجانب الروسي لطلباتنا والمحرك الذي حسم الموقف لصالحنا؟
لا خلاف، فعندما يستطيع أحد جانبي التفاوض كسب ثقة الجانب الآخر سوف يكون قادراً على انتزاع ما يصبو اليه من دون انتظار وعناء يذكر.
تم بالفعل تنفيذ ما اتفق بشأنه في اجتماع موسكو وبدأت خطوات عملية متسارعة شهدتها أرض المشروع لكنها لم تكتمل (للأسف) نتيجة بدء عدوان الاحتلال سنة ٢٠٠٣ حيث توقف عندها تدفق تجهيز المواد والمعدات الى موقع المحطة ومغادرة العشرات من الخبراء الروس العراق متجهين الى روسيا على متن طائرة الإجلاء.
هكذا كانت إحدى وسائل كسبنا للعديد من جولات الصراع وفي ظروف قاسية كونتها إجراءات الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراقيين لسنوات طوال.