الشيطانة ...* نوستالجيا
داليا الحديدي*
الشيطانة ...* نوستالجيا
كان والدي يعمل طياراً حربياً.. ولسفره الدائم، كانت هناك صعوبة في البحث عمن سيوصلني كل يوم.. من وإلى المدرسة.. وكنت دائماً من المتأخرات.
Les Retardataires
وفي يوم.. تأخروا عليّ حتى ملّتني المشرفة.. وكانت سيدة فاضلة وأمينة على بنات المدرسة بشكل لم أقدره إلا بعد سنوات.
كانت شديدة الثقة والاعتزاز بالنفس.. وعلى قِصر قامتها، إلا أنك ما إن تراها، إلا وتلمس أنها من هؤلاء الذين يقال عنهم "قامة وقيمة".. آية من آيات النظام.. لذا، حظيت باحترام أولياء الأمور وثقتهم، وهي في محلها، حتى أن والدي أعطاها ما يعرف بالـ "كارت بلانش" لتعاقبني كيفما شاءت.. والحقيقة أنها لم تكن بحاجة لهكذا كارت.. فلطالما عاقبتني بدونه!
وكانت مهمة هذه السيدة الفاضلة هي أن تنتظر مع
Les Retardataires
أي: البنات اللائي يتأخرن بعد انتهاء مواعيد اليوم الدراسي في الثانية والنصف من مساء كل يوم دراسي.
--
فقد كانت لمدرسة "المير دي ديو" ثلاثة أبواب:
* باب خاص بأوتوبيسات المدرسة يحرسه "عم فرح وعم بشرى".
* وباب آخر قريب من القنصلية السعودية، يحرسه "عم فوزي" ناطور المدرسة، والذي كان ينتظر فيه الأهالي مع البنات حتى الساعة الثالثة والنصف مساء.
* ثم الباب الثالث والخاص بالمتأخرات ويسمى باب "مدموازيل مارجوريت".
وكانت آنسة شبيهة بمسنات فرنسا، بقدودهن النحيلة وقامتهن القصيرة وملامحهن الدقيقة.. إلا أنها كانت تتجمل بحمرة شفاه فاقعة، لونها لا يسُرّ الناظرين.. والجميع كان يعلم، كم كانت تنفعل إذا ما ناداها أحدهم أوإحداهن بـ:" مدام".. فلقد كانت حريصة على لقب "مدموازيل" كأنه رتبة، تعتز بها، أو شهادة إثبات عذرية!
ويبدو أني قد تأخرت في هذا اليوم حتى الخامسة والنصف مساء أو يزيد.. ما يعني أن وقت عمل مدموازيبل مارجوريت قد انتهى.. وبالطبع تريد الذهاب لتأكل وتستريح.. هذا ما فهمته بعد سنوات من هذه الواقعة.
لكن يومها لم أفطن عن سبب غلظتها وفظاظتها معي.. ما أغضبني.. سيما أني أيضاً كنت في قمة الوهن لتأخر أهلي.. أشعر بجوع قارس، وقد هزمني النوم.
وعلى نصبي، فقد كنت أنفذ كل ما تطلبه مني بحماس غير مفتعل.. حيث كنت أُفضّل الحركة على الركون بجانب الباب على الأريكة البنية المصنوعة من خشب الخيزران على شكل كنت أراه قريباً من السلم الموسيقي.. وللحيلولة من أجل الهرب من نظراتها، شظراتها وغلظتها.. قمت باستنفاذ مرات طلبي للذهاب للحمام.. حيث كنت أجد سلوى في المشي في البهوالطويييييييييييييييييل المسمى بالـ "كوريدور".
- الناطور الشامخ
ولكم استوقفتني الطريقة الفريدة التي يمسح بها عم فوزي أرضية هذا الممر الطويل.. كان يقوم بهذا العمل يومياً في الرابعة مساء.
يشرع بمسح الممر الرخامي الطوييييييييييييل -زهاء 50 متراً- يبدأ من اليسار بجانب الحمامات، ويعود بظهره حتى يصل لآخر الـ "كوريدور" حيث المصعد الكهربائي المتاخم للـ "شابّلّ" وهي كنيسة المدرسة الصغيرة.. وكانت -صدقاً- تحفة فنية تبعث على السكينة والتأمل.
كان عم فوزي نظيفاً للغاية.. رجلاً فتياً، شديد سمار البشرة، جبهته واسعة وبراقة.. ومُحياه يحدثك بأنك أمام إنسان أتقن فن الرضى والعصامية.. كما كان يعتني بهندامه، رغم أنه لم يكن يرتدي سوى الجلباب.. ولكنه جلباباً مرتباً، ومكوياً بألوان سادة، بيج وسمني.. وأزرق غامق يليق بسمرته المحببة.
أخلاق عم فوزي كانت تفوق طهارة ملابسه الناصعة.. فصغيرة، كنت ألحظ عدم تمييزه في المعاملة للفتاة التي يدفع عنها ولي أمرها بقشيشاً عن أي أخرى.. ولكني حين صرت أماً، تذكرت أن الرجل مرت من أمامه قوافل طائلة من فتيات ريانات جميلات، على أنه لم ينظر لواحدة منهن نظرة ولا -بخائنة أعين- تجرح طفولتها أو تنتهك صباها.
كيف لهكذا رجل بقدر زهيد من التعليم أن يضبط لغة جسده على هذا النحواللائق؟ وأين تعلم الرضى التطبيقي لا الشفهي أوالنظري؟
- عودة للممر
كان عم فوزي يمسح الممر بممسحة لها يد خشبية طويلة كـ "مقشة الساحرات" كما وشعر طويل.. يمسك بها كما يمسك رسامي المقاهي "التروتوار" في باريس وفيينا وبون، ريشاتهم ليرسموا لوحاتهم على الأرضيات البازلتية.
وكانت حركة يديه يمنةً ويسرةً تتوافق مع تكات عقارب ثواني الساعة.. فكل مسحة لا تتعدى الثانية لحركة اليمين.. وأخرى تخاويها لحركة اليسار.. يفعلها بروتينية.. لكن دونما ملل أوكلل، فكأنه يلقي بريشته يميناً تارة.. ثم ينثرها شمالاً تارة أخرى بلون مختلف.
وحيناً، كنت أخاله ريحاً، ليست بعاصفةً، لكنها تطيح بالممسحة بالهوينى شرقاً، ثم لا تلبث أن تقذفها غرباً.. ومرة هيئ لي أنه يراقص الممسحة رقصة الـ "تانجو"، يقصيها فترتد إليه وتدنو، ثم يعيد الإقصاء فتعاود الارتداد.
هذا الرجل كان يؤدي عمله بفن متميز واحترافية عالية.. إنه من قلة صادفتهم يحبون ما يقومون به.
ولأنه كانت هناك استحالة أن تضبطه متذمراً، لا من حر ولا من غلاء، ولا أكبر من ذلك ولا أهين.. فقد كنت أرتاح لمحادثته.. وعلى انشغاله الشديد، فقد كان لا يردّ كما لا يَصُد.. وكثيراً ما شكوت له من فظاظة "مدموازيل مارجوريت" معي، فيبتسم ابتسامة معناها: "يا ما دقت على الراس طبول".. وكانت عيناه تواسيني وتدعو لي بـ "الله معك".. ولطالما استرحت لهذا العم فوزي كل الراحة.. وكنت أتعمد طلب الذهاب للحمام لمراقبة مشهد التنظيف اليومي الروتيني الخالي من الملل.. وكان يهالني كيف جمع بين الروتين والهمة مقصياً الملل.. كمن جمع بين ضرتين مقصياً الغيرة بينهن؟!
ودتت لو كبار الرسامين أو أحدهم كان قد شاهد هذا النبيل، ليبدع عنه لوحة "شموخ الناطور".
- دنيا الهلباوي
كانت مدموازيل مارجوريت تطلب مني الذهاب لمناداة أي راهبة.. وكنت أركض تلبيةً لطلبها.. وحينما كان يأتي والد زميلتي دنيا الهلباوي.. كنت أهرع الدرج لإبلاغها.
حقيقة، كانت "دنيا" محجماها لقوة شخصيتها.. وكانتا الاثنتان تتبادلان الرمق والتحديق كلبؤة تناطح نمرة.. بينما معي، كان الأمر مختلف، فحتى عوني لها لم ينهض شفيعاً لي حينما زاد تأخر أهلي.. فزاد معه سخطها وباتت لا تريد سماع نفس مني:
بطلي تهزي رجلك.. مفهوم؟
ممنوع الماستيك.. وإلا.
نزلي الشنطة من على الكنبة وحطيها على الأرض.
طبعاً لازم أهلك يتاخروا عليكي.. أكيد مش عايزينك في البيت.. وكررتها مراراً...
أنت أصلك شيطانة.. شيطانة.. شيطانة!
وكانت تردد هذه الجملة كل خمس دقائق تقريباً تلفظ الكلمة.. ويكأنها تبصقها عليّ!
Diablesse que tu es
ولأني كنت أحرك قدماي القصيرتين لا إرادياً كلَّ هُنيهة، ما ينتج عنه صدور صوت أزيز مزعج، حيث كنت أجلس على أريكة مصنوعة من الخيزران.. فلم تجد بُدّ سوى من تنفيذ عقوبة الحبس الانفرادي على قسوتها، بوضعي وحيدة في صالون بجانب مكتبها بمواجهة مدخل باب المدرسة.
هناك جلست ومارست هوايتي في التأمل وتفحص المكان، ثم غلْق عيني واسترجاع صور.. كل تابلوه معلق.. كل أيقونة.. أماكن البيبلوهات.. النوافذ بالشيشان الطويلة المطلة على حديقة المدرسة في شارع عبد الرحمن فهمي.. الصالونات العتيقة ولون السجاجيد الأشد تعتيقاً.
ثم كففت عن هذا العبث حين زاد ضيقي بوحدتي.. وبدأت أشعر بألام خطة التعذيب المدبرة لي.. ما زاد حنقي، خاصة أنها كانت تدخل عليَّ بين الفينة والأخرى.. ترمقني ثم ترميني بلفظ.:"شيطانة"
- الوقيعة
يجدر بي أن أعترف أن مفردة "شيطانة" بالفرنسية لها معنى مجازي يطلق على الأطفال كثيري الحركة.. تماماً كما نصفهم في عربيتنا بـ "الأشقياء"، بيد أننا نعني "لعبيين".
لكن تكرار الكلمة بنبرة صوتها الحادة ورمقها لي بتلكم التحديقات المهينة، حفزتني أن أريها شغل شياطين الصفوف الابتدائية على أصوله!
وقد قرأت في صغري أن العقل قد وضعه الله في قمة جسد الإنسان ليسيطر على جميع الأعضاء.. ولَكَم تعجبت حين رأيتها تطالع رواية "البؤساء" وتساءلت في جداريات نفسي:
كيف لم تستفد حرفاً من الرواية؟
لم أكن قد قرأت البؤساء في ذاك العهد، بيد أني كنت قد شاهدت الفيلم، وتأثرت كل التأثر بمشهد إيواء القس لللص وإهدائه الشمعدان الفضي بعد أن ضايفه بداره!
إذن، أين ضيافتي وأنا التي لم تقترف حد السَرِقة؟
وبما أنها عاملتني كشيطانة.. إذن.. فليكن.. ولترى شغل الشياطين!
جلست بالصالون، واحترت أيهما أختار:
صورة المسيح وهو يحمل الصليب؟
أم لوحة العذراء وهي تحمل المسيح رضيعاً؟
جثوت أمام الأولى على ركبتي وضممت يدي متخذة وضعية الصلاة المسيحية، وظللت أرسم علامة الصليب على وجهي لفترة طويييييلة جداً.. على أمل أن يدخل والدي -الذي يثق بهذه السيدة ثقة عمياء- فيرى صغيرته البريئة على هذا النحو.. المُبَشِر!
كنت على يقين من ثقة والدي في كل شيء بمدرستي ثقة عمياء.. إلا أن هاجسه الوحيد كان.. الدين.
لم أكن أتطلع لدماء.. فقط أردت الاستمتاع بمشهد توبيخها كما أذتني.. ولم أكن أستبعد اختفائها من عالم الأحياء بمجرد ما سيرتكز عليها الوالد.. أو لربما أثابها وكزةً قاضيةً، أو حبذا لو وكزها كما فعل موسى -عليه الصلاة والسلام- مع المصري وهوغضوب يريد أن يقتص لمن من شيعته.. وبِتّ أقترب من حد النشوة من مجرد تخيل مشهد الضربة القاضية في أحلام يقظتي حينما سيقرر والدي الانتصار لمن هي من شيعته ومن صُلبه!
كانت أصغر حجماً من نجاة الصغيرة، بينما كان والدي بجانبها يبدو كـ "كينج كونج".. إلا أن ذلك لم يثنيني عن تمثيل مشهد التبشير!
هكذا تشيطنت لأكيد لنفسي من عنتِ مشرفةٍ تجبرت على طفولتي، فلم أجد بُداً سوى "الوقيعة" على هذا النحو الممنوع من الصرف، وليغفر لي ربي طفولتي الشيطانية.
- كمسيحية ملتزمة
لطف الله أحدث خطأ ما في خطتي.. حيث أن مدموازيل مارجوريت هي التي دخلت علي.ّ. لا والدي.. فسعِدتُ بملاحظة آثار الرعب والهلع، وقد تملكتها حين لمحتني أصلي كمسيحية
pratiquante
فأغلقت الباب من هول ما شاهدت.. وبعد هنيهة، فتحته ثانيةً.. وظلت تفتح وتغلق.. تفتح وتغلق.. كالنور يومض وينطفئ.. لهول ما ترى.. وما لبثت أن أفرجت عني دون كفالة من محبس الصالون.
وبدا التغيير المرجو في معاملتها.. وقد حسنت من لغة جسدها "البادي لانجويج" في تعاطيها معي.. فكفّت عن التأفف والرمق والتحديق والتعنيف، وشتى صور الإيذاء.
كما أنها طلبت مني الجلوس على كرسيها الخاص المبطن، والذي يوجد تحته "بوف صغير" أستطيع وضع قدماي القصيرتين فوقه، فلا أحتاج لهزهما.. وجلست هي بجانبي على كرسي من الخيزران.. ووضعت حقيبتي المدرسية على مكتبها ذي عدة الهاتف الحديثة والمعقدة، المتصلة بسائر المكاتب الأخرى بالمدرسة.. فتجرأت وطلبت منها أن أرد بنفسي على الهاتف، فوافقت وعلمتني كيف.. ثم أعطتني شوكولا، ربما "كيت كات".. كما وأنعمت عليّ بابتسامة، قرأت فيها استعطافاً خفياً، بأنه لا داعيَ لشغل الشياطين والطيب أحسن.
وقد استجبت لنبرة صوتها التي تحولت للدِعة، كما وكافأتها على التغير الظاهر في "البادي لانجويج" الخاص بتعاطيها معي.. فلم أقُص على والدي ما حدث معي من ضغوط تبشيرية!
فقد شيطنتني المشرفة، واضطرتني لمواجهة عنتها بشكل حاد.
ولكني اليوم أستغفر الله.. كما وأحمده.. وأذكر أنها في المجمل كانت من أكثر النساء حرصاً علينا كبنات، سيما إذا وضعنا في الاعتبار متاخمة مدرسة "الإبراهيمية" للبنين لمدرستنا "لا مير دي ديو".
رحمها الله.. لكم أحببتها وبصرت عنايتها وأمانتها معنا.. ولكم اختلقت لها الأعذار.
ربما كان هزُّ قدمي وأنا جالسة على الكنبة الخيزران يزعجها.. خاصة أن هذا الهز كان ينتج عنه صوت أزيز مزعج من الأريكة الخشبية القديمة.. أو لربما كانت تعلّمني النظام بوضع حقيبتي على الأرض.. كما قد يكون منعها لي من تناول العلكة، سببه أنه يجعلنا نبدو كالجمال كما كانت تدعي.
لكن الأكيد أنها كانت مرهقة.
ولا أشك أنها هي أيضاً قد تعلمت مني، وأرجو أن تكون سامحتني.
رحمها الله ورحم كل من يعتقد أن هناك ضعيفاً دائماً.. أو قوياً للأبد:
ليس في الغابات راع...... لا ولا فيها القطيع
فالشتا يمشي ولكن......... لا يجاريه الربيع
خلق الناس عبيداً........ للذي يأبى الخضوع
فإذا ما هبّ يوما.......... ثائراً سار الجميع
*" جبران"
*شاعرة من مصر