فرهود اليهود بعد ٨٠ عام
يوسف ساسون شميل
[size=32]فرهود اليهود بعد ٨٠ عام[/size]
كنت في سن العاشرة حينما اندلعت أعمال عنف غير مسبوقة نفذتها مجاميع من اللصوص والرعاع ضد الطائفة اليهودية في بغداد - العراق. نفذ مثيرو الشغب أعمال القتل والاغتصاب والنهب على المواطنين اليهود. سُميت تلك المجزرة بواقعة الفرهود.
وقعت أحداث الفرهود في يومي الأول والثاني من حزيران عام ١٩٤١، قبل ٨٠ سنة بالضبط. أصابتني تلك الأحداث بالرعب والارتباك واليأس.
كانت تراكمات ما قبل الفرهود قد بدأت قبل حوالي شهرين من الواقعة. ففي الأول من نيسان عام ١٩٤١، حدث انقلاب على السلطة بقيادة مجموعة مؤيدة للنازية أطاحت بالحكومة العراقية الموالية للنظام البريطاني.
وكان الانقلاب بقيادة رئيس الوزراء الأسبق، رشيد عالي الكَيلاني، وبدعم من أربعة من القادة الكبار في الجيش، وكان العقل المدبر للانقلاب هو(فريتز غروبا)، سفير ألمانيا في العراق. بدأت الدعايات المعادية لليهود تنتشر في الصحف اليومية والبث الإذاعي في راديو بغداد، وكانت تهدف إلى تأجيج السكان المسلمين والحصول على الدعم للنظام الجديد. لقد تحمل أبناء الطائفة اليهودية عواقب تلك التركيبة التي ضمت الدعايات النازية والقوميين العرب ومعاداة السامية. شعرت حينها بحيرة وضياع شديدين.
في الأسابيع التي تلت الانقلاب، مكث أفراد أسرتي داخل المنزل لمعظم الوقت وهم مجتمعون حول المذياع. استمعنا غير مصدقين إلى تقارير عن اعتقال يهود بتُهم معاداة العراق، ودعم الحكومة المخلوعة، والتجسس لصالح الانجليز. لم نستطع حتى أن نتخيل مقدار التعذيب الذي تعرض له المعتقلين لانتزاع اعترافات كاذبة منهم. ارتعدت بشدة لمجرد التفكير في ذلك.
في الحادي والثلاثين من أيار عام ١٩٤١، بعد شهرين من الانقلاب، وصلت وحدات من الجيش البريطاني إلى مشارف بغداد، وتدعمها قطعات من الهند والنيبال. انهارت الحكومة المؤيدة للنازية قبيل وصول الوحدات العسكرية، لكن الكيَلاني وقادة الانقلاب تمكنوا من الفرار إلى إيران. شعر أبناء الطائفة اليهودية في بغداد بنوع من الارتياح، خاصة أنَّ تلك الأحداث تزامنت مع عشية عيد الأسابيع، وهو العيد الذي نعتقد بأن الرب سلمنا فيه الوصايا العشرة. وتنفس اليهود الصعداء وشعروا بالفرح والابتهاج، وشعرت انا بسعادة بالغة.
لكن لسوء حظنا، لم تدم الفرحة طويلاً، وتحولت البهجة إلى ألم وعذاب. إذ أدى غياب الحكومة إلى خلق حالة من الفوضى وانعدام القانون التي عمت البلاد. ففي صباح يوم الاثنين المُوافق الأول من حزيران ١٩٤١، اندلعت أحداث الفرهود المأساوية. شارك في تلك الأحداث عديدٌ من الجنود الذين ارتدوا ملابس مدنية، وعناصر من الشرطة وعدد كبير من الرجال، حاملين السيوفَ والخناجرَ والسكاكين، وشاركوا في كسر ونهب أكثر من ١٥٠٠ منزل ومتجر لمواطنين يهود. استمرت الأحداث على مدى يَومين وخلَّفت ما بين ١٧٩- ٧٩٠ قتيلاً و ٤٠٠-١٠٠٠ جريحاً فضلاً عن تعرض عدد غير معلوم من النساء للاغتصاب. سمعنا أصوات الأعيرة النارية وصرخات النساء المتقطعة طوال الليل. كان أبناء الطائفة اليهودية عاجزين وضعفاء، ولم يكونوا متأهبين للدفاع عن أنفسهم. شعرت بالصدمة واليأس والغضب.
في صباح اليوم الأول من الفرهود، كاد حس المغامرة لدى أخي الياهو، الذي يكبرني بستة سنوات ان يُكلّفه حياته. فقد انطلق على دراجته الهوائية لزيارة صديقه وعاد إلى المنزل مسرعا ومصدوماً من هول ما رأى، كانت مغرورقةِ بالدموعِ. لقد شاهد بأم عينيه في شارع الرشيد، وهو أحد الشوارع الرئيسةِ في بغداد، رجالاً ينزلون الركاب اليهود من حافلة صغيرة ويطعنوهم حتى الموت، ثم يجردونهم من ممتلكاتهم، حدث كل ذلك في وضح النهار. لم أتحمل ما سمعته وأجهشتُ بالبكاء.
قام أفراد أسرتي بتحصين باب منزلنا عبر تكديس قطع الأثاث الثقيلة خلفه. أما أنا فحملت دلاء الماء إلى سطح المنزل لتسخينه والاستعداد لسكبه فوق رؤوس من يحاولون اقتحام منزلنا. بقينا مستيقظين طوال الليل ونستمع إلى ما يحدث من خلال الجيران، وتحصنّا داخل المنزل. انهمك والدي بالصلاة وقراءة كتاب سفر المزامير، لكنني وإخوتي كنا متوترين للغاية، ولم ننضم إليه. لم أرغب بأن أظهر بمظهر الضعيف أمام إخوتي الأكبر سناً، لذا بكيت سراً في فراشي حتى غفوت.
انتهت أعمال النهب والشغب والقتل والسبي في ظهيرة يوم الثلاثاء المُوافقِ الثاني من حزيران عام ١٩٤١، عندما دخلت القوات العراقية والكردية إلى بغداد، وقتلت عدداً من مثيري الشغب وأعادت السيطرة على الوضع. تنفست أنا وأفراد عائلتي الصعداء. كنا جميعاً أحياء ولم نصب بأذى، لكن منزلَي العم موشي والعم مئير تعرضا للنهب مثل العديد من منازل اليهود الآخرين، وتمكنت العائلتان من النجاة والهرب عبرسطوح المنازل إلى البيوت المجاورة.
علمتُ لاحقاً أن هناك رجالاً من المسلمين من ذوي الشهامة والشرف الذين وقفوا أمام منازل أصدقائهم وجيرانهم اليهود لحمايتهم، وأيضاً استقبل بعضهم عدد من اليهود للاحتماء في منازلهم. لقد كان هؤلاء الرجال أبطالاً بحق. ساعدتني تلك القصص على استعادة ثقتي وإيماني وجعلتني أُدرك أن هناك كثيرًا من المسلمين الطيبين بيننا.
بعد قيام دولة إسرائيل، وعدم نجاح الدول العربية بضمنها العراق في الحرب ضد اسرائيل في سنة ١٩٤٨ بدأت السلطات العراقية باتهام، واعتقال وسجن وتعذيب اليهود، وبعد اعدام شفيق عدس التاجر اليهودي، لم أعد أشعر بأن لي مستقبل في العراق. غادرت العراق في كانون الأول من العام ١٩٤٩ سراً إلى إيران عن طريق مهربين على متن قارب شحن صغير في البصرة. وصلت إلى إسرائيل وأنا لا أملك سوى الملابس التي كنت أرتديها. شعرت بالحرية وعدم الخوف لأول مرة في حياتي.
في عام ١٩٥١، شرعت الحكومة العراقية قانوناً يسمح لليهود بالسفر رسمياً بعد التخلي عن جنسيتهم. بشرط أن لا يحملوا سوى حقيبة سفر واحدة لكل فرد منهم. بدأ معظم اليهود والمقدر عددهم بحوالي ١٣٥ ألفاً، بمغادرة العراق لخوفهم من تكرار واقعة الفرهود مرةً أخرى. في يومنا هذا لا يعيش في العراق سوى ثلاثة أفراد يهود.
لقد عاش اليهود في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لأكثر من ألفي عام، وكما حصل في العراق، أُجبر اليهود المقدر عددهم حوالي ٨٥٠ ألفاً على الرحيل. كما في العراق، تركوا منازلهم وأعمالهم وكل ممتلكاتهم كما تخلوا عن آثارهم التاريخية وكنوزهم الدينية. كانت تلك عملية تطهير اثني في القرن العشرين!
في مقابلة أجريتها مؤخراً مع أحد الصحفيين من البصرة في العراق، سألني الصحفي:
"هل ترغب في العودة إلى العراق إذا ما تحسنت الظروف؟". أجبته:
"للزيارة ممكن، لكن للعودة لا، أنا سعيد وممتن؛ لأنني غادرت العراق حياً، وأشعر بأنني محظوظ لكوني أتمتع بالحرية في بلد من أفضل بلدان في العالم، وهو الولايات المتحدة الأمريكية".
سانتا مونيكا – الولايات المتحدة