كلمة صادقة من مواطن بسيط لرئيس وزراء العراق.. كفاك تحديات مهينة واحفظ ما تبقى من كرامتك وقدم استقالتك.. ولماذا يجب ان يتخذ رئيس الجمهورية خطوة مشابهة؟
د. سعد ناجي جواد
كلمة صادقة من مواطن بسيط لرئيس وزراء العراق.. كفاك تحديات مهينة واحفظ ما تبقى من كرامتك وقدم استقالتك.. ولماذا يجب ان يتخذ رئيس الجمهورية خطوة مشابهة؟
انزعج مقدم نشرة الاخبار الذي استضافني قبل عشرة ايام على احدى القنوات الفضائية، وحاول ان يقلل من امكانية تحقيق مقترحي والذي مفاده ان على السيد مصطفى الكاظمي رئيس وزراء العراق ان يتنحى، ويعلن صراحة انه غير قادر على تحقيق اي شيء. فلا هو قادر على محاربة الفساد واحالة حيتان الفساد للمحاكم، ولا بمقدوره ان يحاسب قتلة المتظاهرين، او حصر السلاح المنفلت بيد الدولة، او جعل التنظيمات المسلحة المنتشرة في طول البلاد وعرضها ان تنصاع لاوامره، وهي التي يفترض انها تابعة له كقائد عام للقوات المسلحة بموجب الدستور. بكلمة واضحة وصريحة اكثر فلقد يوسفني ان اقول ان الأحداث التي جرت منذ ان تسنم السيد الكاظمي اثبتت ان المنصب الذي يحتله منذ سنة تقريبا اكبر منه بكثير. وانه فشل في كل الامور التي قال انه سيتصدى لها ويصلحها. (وهذا الامر يشمل من سبقه ايضا).
السبب الذي دعاني لكتابة هذه الكلمات، رغم اني لم التق بالسيد مصطفى الكاظمي من قبل، ولا تربطني به اية علاقة وليس لي اي عداء شخصي معه، هو ما حدث يوم امس حين تعرض الى تحد جديد اخر من قبل فصائل (الحشد الشعبي) التابعة قانونا الى قيادته. وللمرة الثالثة منذ تكليفه بتشكيل الحكومة تراجع امام هذا التحدي، وافرج عن احد قادة الحشد، الذي اعتقلته قوات حكومية ووجهت له تهم ضمن مادة مكافحة الارهاب. هناك من قال ان تهمته كانت اطلاق صواريخ على قاعدة عين الاسد التي تاوي قوات امريكية، وان الامر جاء بطلب امريكي، وهناك من قال ان الاعتقال جاء ردا على مقتل متظاهرين سلميين شباب خرجوا اعتراضا على تفشي الفساد وسوء الخدمات وخاصة الكهرباء، مع اتهامات اخرى. وفي هذه المرة، كما في المرتين السابقتين، نزلت مجاميع من الحشد في مواكب مدججة بكافة انواع الاسلحة الخفيفة والمتوسطة الى الشارع متحدية اوامر القائد العام للقوات المسلحة (الكاظمي نفسه). وفي الوقت الذي اخذ فيه التحدي في المرات السابقة صورة الاستعراض في بعض المناطق والشوارع الرئيسة من بغداد، فان التحدي هذه المرة كان اخطرا وشمل تطويق المنطقة الخضراء التي تاوي الحكومة ومقر الكاظمي بالذات. ودعى قادة الحشد الشعبي الى اجتماع داخل المنطقة الخضراء وبالقرب من مكتب السيد رئيس الوزراء نفسه. وبالفعل تم عقد هذا الاجتماع وبترويج اعلامي كبير. وفي الوقت الذي اصدر فيه رئيس الوزراء بيانا (شديد اللهجة) اعتبر فيه هذه (المظاهر المسلحة انتهاكا خطيرا للدستور العراقي والقوانين النافذة) ووجه (بالتحقيق الفوري في هذه التحركات حسب القانون)، وذكر فيه ايضا، كما في حالات سابقة، ان الشخص الذي تم القاء القبض عليه بموجب مذكرة قضائية، قد احيل الى (لجنة تحقيقية مشتركة كبيرة) مكونة من القيادات العسكرية والامنية في البلاد، الا ان متحدثا باسم الحشد الشعبي اعلن بعد لحظات من صدور البيان الحكومي ان مجموعة من افراد الحشد (اغارت على بعض اوكار الشر في المنطقة الخضراء) وتمكنت من الافراج عن الشخص الذي تم اعتقاله وانه اصبح (بين اخوته واحبائه حرا عزيزا)، لتنسحب بعدها قطعات الحشد من حول المنطقة الخضراء. وسواء كانت العملية قد تمت بهذه الصورة او ان الافراج قد تم بامر الكاظمي، فان اقل ما يمكن ان يقال عن النتيجة بانها كانت مهينة.
ان هذه الحادثة وتكرارها لابد وان تثير عدة ملاحظات او علامات الاستفهام:
ـ الاولى: هي لماذا يصر السيد الكاظمي على تكرار ما فشل في تحقيقه منذ المرة الاولى في شهر تموز/ يوليو 2020، او بالاحرى لماذا يصر على احراج نفسه ووضع سمعته على المحك، ويذهب الى تحدِ هو غير قادر على الاستمرار به وبقوة حاكم مقتدر ؟ علما انه في المرة الاولى تم الاحتفال في احد قواعد الحشد الشعبي بالافراج عن زملائهم، وتضمن الاحتفال تمزيق صور رئيس الوزراء وحرقها ووضعها تحت الاقدام، وكل هذه المشاهد انتشرت بصورة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي.
ـ الملاحظة الثانية: تدور حول سوال محوري مفاده الى متى يستمر السيد مصطفى الكاظمي في وضع اجهزة الدولة الاستخبارية والامنية والعسكرية في هذا الموقف الضعيف والمحرج، بل والمذل، ويقوم بالافراج عن من يلقى القبض عليهم استنادا الى معلومات صادرة عن هذه الاجهزة؟ او وبعد ان يصدر بيانا يؤكد فيه على احالة من اعتُقِل الى لجنة عليا من القوات الامنية للتحقيق معه ومحاسبته.
وفي هذه المرة ايضا، كما في المرة السابقة، قامت قيادات من الحشد الشعبي بتهديد قيادات عليا في الجيش العراقي، ونشرت صور وعناوين سكن من شارك في القاء القبض على المعتقل، وعندما لم تجد هذه القيادات الدعم الذي تحتاجه لمواجهة تهديدات فصائل الحشد، والتي وصلت الى حد مهاجمة مساكنها الخاصة وعوائلها، اضطرت الى الاختباء في اماكن سرية وآمنة. بكلمة اخرى ان من يعتبرهم السيد الكاظمي خارجين عن القانون، كانوا واصبحوا يتجولون علنا في الشوارع ولا احد يستطيع ان يحاسبهم، ومن يفترض بهم انهم يقومون بتطبيق القانون يختفون ويتوارون عن الانظار. ولا ادري كيف يريد السيد الكاظمي من القوات المسلحة العراقية الرسمية ان تتجاوب معه وتطبق اوامره بعد الان؟ وهي تجد نفسها تتعرض في كل ازمة للتهميش والتحديات والتقزيم، وتُجبر في كل مرة على اطلاق سراح من يتم القاء القبض عليهم.
ـ الملاحظة الاخيرة: والاهم هي اذا كان السيد الكاظمي عاجزا عن حماية نفسه والقوات العسكرية الرسمية وحكومته والمجمع الحكومي الذي يعمل فيه وسط العاصمة (المنطقة الخضراء)، فكيف يستطيع ان يطمئن الناس على الذهاب الى الانتخابات بامان والادلاء باصواتهم بحرية في بلد تتسيد فيه المليشيات المسلحة المشهد وتعجز الدولة عن مواجهتهم؟ هذه المجاميع التي قامت، بل ونجحت في الاسابيع الاخيرة، وفي احدث نموذج على الاصرار على التاثير على الانتخابات، في اجبار مرشحين مستقلين من مختلف المحافظات على سحب ترشيحاتهم، ومحاولة اغتيال الذين رفضوا ذلك، وقامت باغتيال متظاهرين وناشطين مدنيين، في وضح النهار وامام اعين الاجهزة الامنية الحكومية، سواء في العاصمة بغداد او في مدن جنوبية اخرى، متظاهرين شباب لم تكن جريمتهم سوى اظهار تذمرهم من تردي الخدمات، وخاصة الكهرباء، والمطالبة بمحاربة الفساد. ناهيك عن ما يسببه هذا الانتشار الكبير للسلاح المنفلت من رعب وقلق لابناء المدن العراقية، وخاصة العاصمة بغداد.
كما ذكرت في مرات سابقة لم تمر الدولة العراقية الحديثة منذ بدايات القرن الماضي، وحتى ساعة الاحتلال البغيض بمثل هذا الانحدار والانحطاط، بل ولم يشهد العراق مثل هذه الحالة المزرية الا في حقبات حكم المماليك والانكشارية من الاقوام غير العربية التي حاولت الخلافة في العهد العباسي ان تستعين بهم ثم انقلبوا عليها. ثم اصبحت ظاهرة اغتيال الخلفاء او عزلهم من قبل هذه المجاميع، التي اصبحت قوتها اكبر من قوة الدولة، ظاهرة اعتيادية انذاك، الامر الذي جعل بغداد عرضة لاحتلالات متعددة.
الا تستدعي كل هذه الظواهر المهينة ان يقدم السيد الكاظمي استقالته الى السيد رئيس الجمهورية، والذي يجب ان يتضامن هو الاخر معه، ويتوجه الاثنان الى البرلمان ويوضحا الاسباب التي دعتهما لاتخاذ هذا القرار حفظا لماء الوجه.
لا بل ان رئيس الجمهورية كان يجب عليه ان يتخذ هذه الخطوة قبل رئيس الوزراء، لانه اولا وبموجب منصبه يعتبر حاميا للدستور والمسؤول عن الالتزام ببنوده، وهو يعلم ويشاهد يوميا كيف ان هذا الدستور يخرق سواء في بغداد او من قبل اقليم كردستان. لا بل منذ ان تم تهديده قبل اكثر من عام من قبل مليشيات متنفذة مما اضطره الى الذهاب الى كردستان العراق بعد ان شعر بانه غير آمن على نفسه في بغداد. واما مقترحه الاخير والذي دعى فيه الى اصدار قانون لمحاربة الفساد واسترداد المبالغ المنهوبة من ميزانيات العراق، فهذا يحتاج الى نقاش اطول، وما يمكن قوله الان ان الدولة والحكومة التي ليس بمقدورها ان تنفذ امورا بسيطة، كيف ستستطيع محاسبة هذا الكم الهائل من الفاسدين الذين، وحسب قول السيد رئيس الجمهورية، اهدروا وسرقوا وهربوا ما يقارب ترليون دولار من اموال العراق، اي الف مليار دولار. ومن قام بفعل ذلك اشخاصا واحزابا وكتلا سياسية معروفة تقاسموا المناصب الحكومية والرسمية والنيابية منذ بداية الاحتلال ولحد الان، وهم يتمتعون بحماية مليشيات وفصائل مسلحة، والسيد رئيس الجمهورية يعرف هذه الحقائق جيدا، لانه اشترك في كل حكومات ما بعد الاحتلال.
اخيرا وليس اخرا فان انعدام الامل والتفاؤل لم يستشر بين العراقيين بسبب تشاؤم متاصل في نفوسهم، كما يعتقد البعض، ولكن بسبب ما يشاهدونه ويعيشونه من ماسي اولا، وبسبب معرفتهم ان كل الاطراف المستفيدة مما يجري في العراق، وخاصة ايران والولايات المتحدة واسرائيل، ودول مجاورة اخرى، مصرين على ابقاء العراق على هذه الحالة من الضعف والتشرذم، ومصرين على دعم الوجوه غير الكفوءة والفاسدة والتي تفضل ان تخدم مصالح الخارج على ان تخدم ابناء شعبها.
ان التعويل على الانتخابات القادمة او التفكير ان الاعتماد على الاطراف الخارجية يمكن ان يحل مشاكل العراق واصلاح اموره، في ظل وجود نفس الوجوه والكتل التي تسيدت المشهد السياسي في العراق منذ الاحتلال، لن ينتج عنه سوى مزيد من الدمار والفساد، ولن يصلح الامور الا ثورة شعبية تعيد بناء الدولة على اسس صحيحة، يكون فيها مبدا سيادة القانون والمساواة امامه هو الاساس. نعم ان هذا الحل سيواجه عقبات كثيرة بعد سنين من الانفلات، لكن اعتماده سيضع البلاد على المسار الصحيح، وسيجعل من الفاسدين او من لا يمتلكون الكفاءة يتهيبون من المغامرة بالقبول بمنصب اكبر منهم ومن قدراتهم، وخاصة اذا ما علموا ان القانون والقضاء النزيه سيكون لهم بالمرصاد.