بعد أن ودّعنا بلا وداع أحمد راضي … في ذكراه الأولى
بقلم: صفوة فاهم كامل
بعد أن ودّعنا بلا وداع أحمد راضي … في ذكراه الأولى
في هذا اليوم الصموت نستذكر بلوعة الألم ونار الفراق، الذكرى السنوية الأولى وما أعجلها، لرحيل لاعبنا الدولي أحمد راضي، ومعها نستذكر ما خطّيناه عن ذلك المصاب الجلّل في ذلك اليوم...!
ففي فجر يوم الأحد 21 حزيران من العام المنصرم 2020، صحا العراقيون على وقع خبر محزن وصدمة أليمة؛ فَطَرت قلوبهم. لم يصدّقوا في بادئها هول الفاجعة والشّدّة، لكنها حقيقة واقعة لا محال، وقدرٌ محتوم لا مستحيل، فطرقَ سمعهم أُفول نجمٌ كبير سطعَ في سماء بلده سنوات طوال، لكنه هوى منها بسرعة الضوء. إنه نجم النجوم، الرياضي الأنيق ولاعب الكرة الرشيق أحمد راضي الصالحي، بعدما أصَابته بليّة كورونا اللعينة، ليكون الشهيد الأخير لقائمة طويلة من شهداء ذلك الوباء...!
ملاعب الكرة كما هي ملاعب الحياة ودّعَت هذه الأسطورة، فانتقلت روحه الطاهرة من دار الفناء إلى دار البقاء، مُخلّفاً وراءه زوجة صبورة وأربعة أولاد زغبَ الحواصل، يرفعون أسمه إلى العلالي ويحملون تاريخهُ في القلوب.
هكذا هو حال العظماء في بلادنا ... كلّما هوت قامة عراقية؛ نعيناه وتحدثنا عن مآثره وقلنا خسِره العراق والعراقيون، بعد أن بلغ من العمر عتيّا وأخذ استحقاقه من الحياة وقدّم ما عنده من عطاء ورفع اسم بلده عالياً في المحافل، ليفتخر به الوطن والأجيال... فلكلِّ أجل كتاب.
لكن أن يرحل مرءٌ عظيم قبل آوانه فهُنا الخسارة أعظم والفاجعة أكبر، ولا رادَّ لقضاء الله ولا معقّب لحكمه. فالموت كلمة من ثلاثة حروف، سهلة الكتابة
والنطق، لكنّها تهزّ القلوب وتقضُّ المضاجع وتدرُّ المدامع. كلمةٌ تُخبرك عن إنسانٍ فارقك إلى غير رجعة أو لقاءٌ بعد حين.
قبله بتسعة أيام رحل وبنفس الداء الخنّاس، اللاعب علي هادي، عن 53 عاماً، وبعده بأسابيع قليلة التحق بهما زميل دربهم الطويل اللاعب ناظم شاكر عن 62 عاماً، أعقبتهم قافلة أخرى من الرياضيين المبدعين رحمهم الله جميعهم، كانوا في قمّة عطاءهم الفني للرياضة، لهم أحلام وطموحات وأصبحوا من الماضي الفاتن، ولم يبق منهم سوى الذكريات الطيّبة وتاريخ ناصع.
كان أحمد راضي، يعيش عيشةٍ هنيّة في منزله الجميل بعمّان، يستنشق هواءها العليل صباح كلَّ يوم، يجوب شوارعها كسلطان غير متوّج، يرافقه ولي عهده فيصل، ويحلّقنَ فوق رأسه بناته العرائس كطواويس خضراء، مطمأن البال، كثير الأصحاب والخلّان، معزّز ومقدّر من الجميع.
شاهدته أخر مرة مساء يوم 11/3/2020، في أخر مجلس عزاء عراقي أُقيم في قاعة الريحاني بالعاصمة عمّان قبل أن تمنع خلية الأزمة ذلك النشاط الاجتماعي ونشاطات أخرى؛ باعُثها تفشّي الوباء في الأردن، فمَنعت السفر منها وإليها، فكان إلزاماً وأمراً على أحمد راضي، أن يبقى حبيس المحبسين؛ لا السفر إلى العراق ولا حتى الخروج من البيت كأقرانه المواطنين في عموم البلاد.
لكن حبّهُ للوطن وطموحه المشروع في التنافس مع زملاءه في ارتقاء مناصب رياضية عُليا وتحمّل مسؤولية جديدة؛ جعلته يتحدّى السكون ويحمل جسده للرحيل إلى بغداد خِلسةً...! فطار يوم 16/4/2020، مع طائرة عراقية خاصة نقلت عراقيين عالقين في الأردن لا مُعيل لهم، فودع عائلته الصغيرة على أمل أن يلتقيهم بعد حين، من حيث لا يعلم إن وداعه كان الوداع الأخير لهم...!
بعد وصوله بغداد، بدأ مشواره الطويل القصير! مع إخوانه وأحبائه ليبدأ صراعه الشريف ونضاله المحموم ضد منافسيه وخصومه، لاحتمالية فوزه بحقيبة وزير الشباب أو رئيس اتحاد كرة القدم أو أي منصب رياضي آخر، يخدم فيه الرياضة والرياضيين. وكان قاب قوسين أو أدني من تحقيق ذلك!
لكن من بعيد وفي الخفاء، حدث هناك من كان يتربّص أحمد راضي، ويترصّده أينما يذهب ويتبعه أينما يحلّ وينتظر لحظة اصطياده، ليطفأ إلى الأبد تلك الشُعلة الوهّاجة المتلألئة وهو بعيد عن أهله وأحبائه، وهذا ما سَلمَ به ذلك الفايروس القاتل الذي ظلَّ يصارع أبا فيصل سبعة أيام بلياليها حتى انتصر عليه في الرمق الأخير من حياته، قبل أن يودّع الجميع بلا وداع...! ودّعنا وودّعَ معه آمال أمّة مفجوعة وأماني شعب مرزوء. وخلال سويعات أصبح النجم في خبر كانَ مفارقاً سطح الوطن وسماءه، قابعاً تحت ثراها، في مقبرة الغرباء، بلا غُسُل ولا كَفن ولا تابوت ولا لَحَد
ولا مُشيّع ولا صلاة ميّت على روحه، لكن رحلته إلى حياة البَرْزَخ وعالمها قد بدأت...!
وما صلاة الغائب التي أقيمت على روحه الطاهرة في مسجد التقوى بضاحية خلدا في عمّان، ذلك المسجد الذي كان يتردّد عليه الفقيد فجر كل يوم لإداء الصلاة فيه وبقية الفرائض، ما هي إلا تعبير صادق وعرفان نبيل من أبناء الجالية العراقية في الأردن وروّاد المسجد، لأخيهم التقيّ وهو في علّيين.
الآن وبعد سنة على فقده؛ فكلّما ذُكرنا كورونا تذكّرنا أحمد راضي، الذي أصبح أيقونة كورونا ومأساتها، بعد أن كان أيقونة الرياضية وأفراحها. وكم تمنيت في حينها أن ينهض راضي من جدثهِ ليرى ولو لبُرهة من الزمن، وينصت ولو لمرة واحدة، ماذا نطق الإعلام المرئي والمسموع؟ ماذا كتبَ عنه محبّيه ومعزّيه؟ رياضين وفنانين، زعماء ومسؤولين، عراقيين وأجانب، ملاين الدموع ذُرفت على رحيله، آلاف الصور رفعت، مئات الكلمات قيلت بحقه، عشرات المواقع حملت أسمه، رِثاء وثناء فاق التصوّر... هذا ما استحقه أبا هيّا وما ميّزه وسيميّزه بين الخالدين، ولسان الشاعر يقول:
(كأنك من كل النفوس مركبٌ · · · فأنت إلى كل الأنام حبيبُ)
فهل كل هؤلاء أرضوا راضي...؟
أما نحن فنبتهل ونقول: ليحسن الله عزاء العراق والعراقيين عن ابنهم البار، ويجعل من إرثه الرياضي وتاريخه الحافل عزاءً عن هذه الصدمة، ولا عزاء بعده، ويجعل من ابنه فيصل، وأبنائه الآخرين خير خلف له، وسيبقى التاريخ يَذكر بأحرف من ذهب إنجازاته الرياضية التاريخية الكبيرة، وما البقاء إلا لله ...
﴿ وما تدري نفس مَّاذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأَي أَرضٍ تموت إِنَّ اللَّه عليم خبير ﴾