الانسحاب الامريكي من أفغانستان.. تكتيك إستراتيجي نحو استعادة مكانة الولايات المتحدة العالمية أم هزيمة عسكرية؟ وما أثرهذا القرار على منطقة الشرق الاوسط؟
د. سوسن إسماعيل العسّاف*
الانسحاب الامريكي من أفغانستان.. تكتيك إستراتيجي نحو استعادة مكانة الولايات المتحدة العالمية أم هزيمة عسكرية؟ وما أثرهذا القرار على منطقة الشرق الاوسط؟
اعلنت القيادة المركزية الامريكية قبل ايام بأنهُ تم استكمال أكثر من 50% من عملية التراجع والاخلاء الامريكي من افغانستان، والتي كانت قد بدأت في 1/أيار-مايس الماضي، وصاحب ذلك تصاعد في حدة الهجمات والتفجيرات داخل المدن الافغانية مع تحذيرات أممية وتوقعات تشاؤمية لما سيؤول عليه الحال في افغانستان بعد خروج أخر جندي أمريكي من اراضيها. وفي أجواء عالمية مضطربة سياسياً ومأزومة صحياً وغير مستقرة اقتصادياً وملوثة بيئياً، جاءت مجريات الانسحاب الميدانية كجزء مكمل للحرب التي شنتها الولايات المتحدة مع حلفائها لإحتلال أفغانستان في 2001 نتيجة للقرار العشوائي المبني على روح الإنتقام لاحداث 11 سبتمبر، والذي أدى الى دخولها في حرب طويلة دون أي حسابات للفشل او المقاومة. وشهدت هذه الحرب الاستنزافية تخبطات كثيرة، تغيرت فيها الاستراتيجيات الامريكية من الهجوم بضربات إستباقية إجهاضية لاجل البقاء الدائم الى سياسية الفوضى الخلاقة لفرض الوجود، وحتى ترتيب مرتكزات دفاعية لخفض التواجد العسكري، ثم القرار بالخروج العاجل بإعتمادية الاساليب التفاوضية والوعود السياسية. وبسبب الاخفاقات التي منيت بها الإدارات الأمريكية المتعاقبة في هذه الحرب منذ عهد بوش الابن ولغاية الان فإنها ظلت غير قادرة على اعلان النصرأو تحقيق أي نجاح لإستقرار أمني-سياسي، وفي الوقت نفسه غير راغبة للإعتراف بالهزيمة.
ابرز نتائج هذه الحرب على افغانستان تمثلت في القتل والتفجيرات الدموية وضحايا ابرياء وانقسامات داخلية وتنظيمات مسلحة عابرة للحدود الدولية وميليشيات متطرفة شوهت ما تبقى من ملامح الدولة المدنية، مع نزوح وتهجير الملايين وحرب أهلية مع مشاكل سياسية واقتصادية هددت ومازالت تهدد وجود وأمن الدولة نفسها والدول المجاورة لها. ورغم كل ذلك اصرت الولايات المتحدة على الإدعاء بأنها، وبتضحيات جنودها، حققت لأفغانستان الكثير من التغيير والتقدم المجتمعي والسياسي !! ووصل الامر الى الزعم أن أفغانستان أخذت أكثر مما أعطت للولايات المتحدة منذ بداية الغزو ولغاية قيام ترامب في نهاية شباط/فبراير 2020 بعقد اتفاقية مع حركة طالبان لتقليل وسحب القوات الأمريكية، مقابل قيام طالبان بالالتزام بالتهدئة الفعلية وخفض مستويات العنف والانخراط في محادثات ومفاوضات سلام مع الحكومة الافغانية، وقطع العلاقات مع الارهابيين في إشارة الى تنظيم القاعدة وداعش. علماً بأن الادارة الترامبية فكرت في البداية بخصخصة هذه الحرب، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من خلال سحب الجنود النظاميين وتعويض وجودهم بالمتعاقدين الامنيين المدفوعي الاجر تحت إشراف أحدى وكالات المخابرات أوالاستخبارات الامريكية دون اعتبارهم جزءاً من القوات العسكرية الامريكية الرسمية، إلا أن البنتاغون رفض هذه الفكرة.
وقد سارت إدارة البيت الابيض الجديدة على نفس نهج سابقتها بتكريس دعوات الانسحاب من افغانستان، حيث اعلن الرئيس بايدن في ابريل/نيسان الماضي قرار الانسحاب وتحديد الذكرى العشرين لهذه الحرب موعدا نهائيا لها، والتي اعتبرت إحدى الحروب العبثية غير المنتهية التي خاضتها الولايات المتحدة منذ عام 1990 دون اي فوائد منها أو انجازاتٍ لها، بل تسببت في نشر الكراهية للولايات المتحدة والرعب الدموي، وخاصة في منطقتي الشرق الاوسط وجنوب شرقي اسيا. وحسب التقاريرفإن إدارة بايدن تعتزم الانسحاب دون استراتيجية الاستبدال بدليل انها اعلنت عن إجلاء 2500 جندي نظامي وأكثر من 17000 متعاقد أمني-عسكري خاص مع الحفاظ على وجود دبلوماسي، محمي بقوة عسكرية (650 جندي)، مع إسناد وتأييد سياسي. والذي يعني التخلي عن اية التزامات عسكرية-امنية اخرى خصوصاً وأن حلف الاطلسي بدوره أعلن عن عدم رغبتة في البقاء بدون الدعم اللوجستي الامريكي وسيسحب هو الاخر 7000 جندي من افغانستان، (قامت المانيا بسحب قواتها قبل يومين). وفي الوقت الذي تحاول فيه الولايات المتحدة ان تُظهر بأن قرار الانسحاب جزءا من استراتيجية واسعة مبنية على تقليل المواجهات في العالم التي تورطت فيها، إلا إنه لا يمكن النظر اليه إلا على أساس أنه هزيمة تضاف الى هزائمها في فيتنام والعراق.
فمن بداهة القول ان ما اجبر الولايات المتحدة على اتخاذ هذه الخطوة أسباب عديدة، تقف في مقدمتها مسألة الخسائر المادية الكبيرة ( 2 ترليون دولار تقريبا) والبشرية حيث وصلَ عدد القتلى بين صفوف جنودها (أكثر من 4002 قتيل و20.000 جريح، ناهيك عن العدد غير المسجل من قتلى الشركات الامنية العسكرية الخاصة التي استأجرتها الولايات المتحدة لمساعدة قواتها النظامية، وعدد أخر من جنود التحالف). كما أن الحقيقة تقول أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للخروج لم تأت لأجل إنهاء مشكلة أفغانستان وإنما جاءت من أجل أن تركز على ما تعتقده الولايات المتحدة مخاطر أكبر تواجه مكانتها ومصالحها العالمية والمتمثلة بالخطرين الذين بداءا يحدقان بها: الأول إقتصادي حيث ثبت ان القوة ألاقتصادية الصينية، وحتى الاوروبية الحليفة، بدأت تنافس الولايات المتحدة، وفي حالة الصين فإنها ربما تكون قد تجاوزتها. والثاني عسكري تمثل في تطور القدرات العسكرية الصينية والروسية، والذي اكدت بعض التقارير تفوقهما وخاصة بعد الاعلان مؤخراً عن الصواريخ والبوارج الصينية التي ستدخل او دخلت الخدمة فعلياً، الأمر الذي ادى الى الحديث عن تفوق هاتين القوتين، ووصولهما الى مرحلة الردع الشامل والمتكامل، ومن هنا جاء طرح الولايات المتحدة فكرة وضع سقفا لتحديد سباق التسلح وخفض الترسانات النووية. والخطر الذي تستشعره الولايات المتحدة أصبح أكبر بعد نجاح الصين وروسيا في الأمتداد الى مناطق كثيرة من العالم من ضمنها ما كانت تعتبر حتى وقت قريب جداً مناطق نفوذ أمريكية بالمطلق. وأكد هذا الشعور الأمريكي نتائج مناقشات والبيانات الختامية للقمم التي عقدت في هذا الشهر، قمة كورنوال لمجموعة الدول الصناعية السبعة G7 وقمة بروكسل لحلف شمال الاطلسي NATO، والتي شهدتا محاولة أمريكية لجر أوروبا الى صفها في معركتها المستقبلية القادمة مع الصين وروسيا. بل وحتى قمة جنيف التي جرت بين الرئيسين الروسي والأمريكي، حيث أن المحادثات الثنائية العلنية والهادئة لم تخف التوترات والازمات الموجودة والمرتقبة بينهما.
ومن ناحية أخرى قد تدفع تحركات تقليص الانتشار العسكري الى الاستنتاج بأن سياسة الولايات المتحدة من الان فصاعداً ستشهد تحولا يرمي الى تخفيف التوترات والتدخلات الخارجية للتركيز على الخطرين الصيني والروسي والتحالفات الدولية-البراغماتية لصدهما. ولعل تتبع التطورات الاخيرة التي حدثت في الشرق الاوسط كلها تدلل على نهج الأستراتيجية الأمريكية الجديدة: (تقارب مصري- تركي لايجاد تسوية في ليبيا، والحث على تقارب عراقي-اردني- مصري، والدفع باتجاه تسوية في سوريا، والتشجيع على انهاء الخلاف والانقسام بين دول مجلس التعاون الخليجي، وتوسيط سلطنة عُمان لايجاد مخرج للحرب في اليمن، وتوسيط العراق للتقريب بين المملكة العربية السعودية وايران، وخطوات العودة للاتفاق النووي مع ايران رغم الاعتراضات الشديدة للطفلة المدللة (اسرائيل). بالاضافة الى مطالبة الولايات المتحدة إسرائيل، في إتصالات غير معلنة، بوقف إطلاق النار السريع في حرب غزة الاخيرة وبالعودة الى مفاوضات السلام مرة أخرى ودعم حل الدولتين، على الرغم من تكرارها لعبارة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها). يضاف الى ذلك إعادة استثمار الاموال المصروفة في مختلف الجهات من العالم لانعاش الاقتصاد الامريكي الداخلي والاتجاة نحو التنافس العسكري من جديد مع ترميم علاقاتها الدولية الاوروبية والاسيوية كأولويات مهمة في إعادة مكانتها كقوة مهيمنة تستدعي الابتعاد والتخلي عن الحروب غير الضرورية (ومن وجهة نظر البعض الصعبة) بمصالح ضيقة الابعاد وبنتائج عكسية التوجهات.
من ناحية أخرى فإن حركة طالبان تدرك ان الانسحاب لا يعني ابدا تخلي الولايات المتحدة عن تواجدها ومصالحها هناك. وان عملية خلق المشاكل الداخلية ستستمر اعتمادا على ادوات محلية. ولهذا فان طالبان بدأت تتبع سياستين متوازيتين، الأولى تمثلت في المبادرة بإعطاء الإنطباع لعموم شعب افغانستان والدول المجاورة بأن عودتها حتمية وقوية لكنها ترمي الى إنهاء النزاع المسلح عبر الحوار ومحادثات السلام والثانية العمل على إبراز مؤشرات سعيها لتسلم السلطة من جديد عبر إعادة سيطرتها واستيلائها على مناطق واسعة شمال أفغانستان بالتزامن مع عملية الانسحاب الامريكية وبدون أية مقاومة تذكر من القوات الأمنية الأفغانية الرسمية، والتي أستسلم عدد غير قليل منها مع معداته العسكرية التي قدمتها الولايات المتحدة لهم، الامر الذي أثار حفيظة وقلق الامم المتحدة والحكومة الافغانية القائمة والتي مازالت قواتها الامنية غير مؤهلة لإدارة الملف الامني وبحاجة للدعم.
وبهذا وحسب وجهة نظر كبار محللي المخابرات والمسؤولين العسكريين الامريكيين (صحيفة ذا وول ستريت جورنال)، أن حكومة افغانستان وعاصمتها كابول قد تسقط بعد 6-12 شهراً من مغادرة القوات الامريكية. وبذلك فإن معارضي سحب القوات الامريكية من افغانستان اعتبروا خطة الإنسحاب طائشة وخطأءا فادحا، وتدلل على التراجع بوجه عدو لم يتم هزيمته بعد، وتنازل عن الزعامة الامريكية في هذا الجزء الحيوي المهم لنفوذها ولمصالحها. ولخص ذلك رئيس مجلس العلاقات الخارجية ريتشارد هاس حينما بين أنه من المخيب للآمال أن بايدن اعتمد على اختيار التقويم التاريخي بدلاً من الوضع في افغانستان كشروط للانسحاب. فتكاليف البقاء منخفضة نسبياً (3 ألاف جندي لم يسقط منهم اي قتلى في المعارك الامريكية منذ شباط 2020).
وأضاف هاس إن تكاليف المغادرة عالية جداً (إحياء الارهاب، تصاعد القمع من قبل طالبان، تضرر بسمعة الولايات المتحدة). كما أن المعارضين يتخوفون من أن سيناريو الانسحاب بإستراتيجية مستعجلة، كما حدث في العراق، وبدون خطة بديلة أو استراتيجية تعويض شاملة مع حكومة محلية قوية ستتكرر في افغانستان. خاصة وان إحتمالية سقوط حكومة كابول واردة جداً وقيام الحرب الاهلية بين الاطياف والمذاهب الافغانية غير مستبعدة، ناهيك عن التدخلات الاقليمية والدولية ومنها خروج دول أسيا الوسطى من دائرة نفوذ الولايات المتحدة وحلف الاطلسي الى السيطرة الروسية خشية من تمدد حركة طالبان بعد الإنسحاب الأمريكي.
كما أن محاولة الولايات المتحدة لجعل تواجدها في افغانستان كابوساً امريكياً لإيران، قد انقلب بالكامل، حيث اصبحت إحتمالية تواجد إيران في أفغانستان مع التواجد في العراق سيصبح، ان لم يكن قد أصبح، كابوساً للولايات المتحدة، وبهذا فإن ايران ستكون لاعباً إقليمياً قوياً في المنطقة ومن الممكن ان يغير ذلك قواعد اللعبة الاستراتيجية فيها. أضف الى ذلك أن إستمرار بقاء تركيا في افغانستان وعبر حماية مطار كابول سيعني انها ستكون جزءاً من التفاهمات الامنية الجديدة لمرحلة ما بعد الانسحاب، وهذا الامر قد يخلق أزمات جديدة إذا ما استهدفت طالبان القوات التركية بإعتبارها مساندة أو بالنيابة عن القوات الامريكية!! وفوق كل ذلك فإن الفواعل الدولية من غير صفة الدولة المنتشرة في افغانستان مثل (داعش والقاعدة) ستكون هي الاخرى اقوى من ذي قبل، ولعل تخوف الصين غير المعلن من التحاق مسلمي الايغور بهذه التنظيمات يمكن أن يزيد من عدم الاستقرار الدولي.
كما ويجب أن نتوقع أن ما فشلت الولايات المتحدة في تحقيقه عن طريق استخدام القوة والتدخل المباشر، ستستمر في العمل على تحقيقه بطرق غير مباشرة، اما بإستخدام ادوات محلية تابعة لها، او عن طريق إثارة حروب داخلية –أهلية واقليمية. ومن هذا المنطلق فان الاطراف التي تعتقد بأنها قد هزمت الولايات المتحدة عليها ان تكون اكثر من واعية ومتنبهة لان الخطر سيأتي لها اما من الداخل او عن طريق اطراف اقليمية.
وهذا ما سيتسبب في إستمرار حالة عدم الاستقرار لمنطقة الشرق الاوسط التي عانت وما زالت تعاني من ويلات الحروب. وبذلك يبقى السؤال المهم هو هل ستنجح الولايات المتحدة مع انسحابها الكامل من أفغانستان في الوصول الى النتيجة المطلوبة (خلق صراعات وحروب داخلية بأدوات محلية)، أم أنها ستفكر بدلاً عن ذلك في اصلاح ما دمرته حروبها وما سببته من انقسامات في مناطق العالم المختلفة؟ وهل ستتمكن من الايفاء بوعود تقديم المساعدات والاستشارات والدعم للحكومة الافغانية؟ وهل بالفعل ستدعم وترعى حوارا بين طالبان والحكومة؟ والسؤال الأهم هو هل ستتغلب الحكمة والتفكير العقلاني على صناع القرار في الولايات المتحدة ويلجاؤن حقا الى سياسة تقليل الأزمات والتدخلات والحروب حول العالم والعمل على التهدئة؟ أن كل المعطيات لا تدلل على ذلك، فالإصرار على إثارة المشاكل الداخلية في الدول التي لا تنسجم مع سياستها والإصرار على زيادة القواعد العسكرية حول العالم، ومحاولات كسب اوروبا وباقي حلفائها للوقوف معها ضد الصين وروسيا، وحتى محاولة بايدن العقيمة لكسب بوتين في المحادثات الأخيرة في جنيف للوقوف ضد الصين، وكسر التقارب الروسي-التركي وإقناع تركيا لإلغاء العقد المتعلق بشراء منظومة الصواريخ الروسية التي تعاقدت عليها تركيا، وقصف مستمر غير مبرر وغير مؤثر لمواقع الحشد الشعبي في العراق، يضاف الى ذلك وجود الصقور في مؤسسة (دولة) الأمن القومي المتنفذة والتي لا تزال تعتقد ان الولايات المتحدة تستطيع بقوتها المنفردة ان تحقق ما تصبو اليه من أهداف، كلها مؤشرات تؤكد أن الولايات المتحدة ستستمر في نهج الهيمنة المعتاد، خاصة وأن إحتمال إنتهاءها كقوة عظمى لن يحدث في المستقبل المنظور. صحيح انها لن تبقى القوة الوحيدة المطلقة لكنها ستبقى تطمح للقيادة العالمية، وهذا يعني أنها ستستمر في المراوغة بين انهاء حروب هنا والتهديد بإشعال أخرى هناك حسب محددات مصالحها القومية العليا، ولعل قادم الأيام والسنين سيثبت ذلك.
*أكاديمية وباحثة عراقية