اللامألوف.. في رواية البدلة البيضاء للسيد الرئيس للروائي.. علي لفته سعيد
فرح تركي ناصر
اللامألوف.. في رواية البدلة البيضاء للسيد الرئيس للروائي.. علي لفته سعيد
في مستهل الرواية كان الإهداء.. "حيث لا مجال لأحد"
في طوفان يجعل من الصعوبة التكهن لمن يكون هذا الاتجاه لاحد.. قد يقصد سعيد انه أستهال.. تعريض قبل الأحداث.. وتهيئة للأحداث.. وخاصة لما جاء به بعدها..
بعنوان الجزء الأول.. قبل الرواية
تبدأ الرواية في وصف شعور غريب يخالج طفل لم يبلغ بعد.. يتطلع لأول مرة.. على مفاتن النساء في مصادفة وجوده مع زوجة أبيه مع صديقتها الخياطة لقياس فستانها الجديد..
كان ذلك الجزء من الرواية يضع سعيد في فئة الكتاب الذين ترجموا الخيال في وصف حياة على ورق.. قد تشابه إلى حد كبير المواقف التي يعيشها إيّ إنسان حقيقي منا وفينا حتى وإن لم يكن مدلول الطفل اليتيم... هنا تظهر إمكانياته.. فكأنه تنقّل بسحر ما وتجوّل بين خصوصيات النساء التي لا تُحكى. حتى لأقرب رجل من أب أو أخ.. هي تفاصيل سرية.. أو لا تذكر لأنها بنظر النساء.. خصوصية لا تجتاحها قوانين الفضفضة لأحد.. حتى وإن كان مدلول، قد كتب مذكراته يوما فقد لا يذكر تفاصيل ومشاعر وأحاسيس له أو لمن كانوا بقربه بهذا العمق.
لو وقعت الرواية بيد الشخصيات التي فيها لكانوا تسمروا ذهولا.. كيف تمكن السعيد من الولوج إلى أعماقنا وكشف ذلك...
إنه لا يغادر كبيرة ولا صغيرة، كالضحك والتبسم.. هو ينقل يوماً كاملا.. بهمومه بظله وضيائه.. لكل شخوص الرواية
مشاعرهم وامنياتهم المكبوتة.. متداخلاً بتقنية ماهرة بين جمع المشاعر والحرمان بكل انواعه.. العوز.. التهميش.. ردود فعل الناس ومشاعرهم وظنونهم نحوه، وحتى المواقف التي لا تُنسى.. ليبلغ إلى القمّة العميقة التي جاءت منها تسمية البدلة البيضاء للسيد الرئيس.. إلّا وهي التملّق والانخراط للحزب الحاكم للوصول إلى القمّة، ونزع ثوب الفقر والنبذ، وكان والد الطفل اليتيم مدلول في الرواية هو بطريقةٍ واضحة قد أوعز للمدلول بأن يجعل من تلك الصورة كرمزية، وكأنها هدف يختاره للوصول لكيلا يعيش قدرا بائس مثل أبيه.
إن الأب الفقير الذي تزوّج لأجل أن يجلب أمّا ثانيةً لابنه اليتم، لتهتم به وكان تلك صورة ما.. لما يعانيه أي يتيم من الإهمال.. وكيف تكون زوجة الأب.. تفرض مناً لأي رعاية تقدمها.. وتتكاثر ردود الذين حولها نصحا لتهتم بطفل صغير فقد أمه.. وأكثرهم صديقتها الخياطة أم ساهي.
لقد جسّد الروائي سعيد الشفافية والعمق في موقف لن ينساه البطل مدلول كما أي انسان.. اليوم الذي يسبق رحيل الأب أو الأم كانت تلك انغماسه عميقة ليد السعيد ليلتقطها من بركة ممزوجة بالتراكمات النفسية وإلى ما تركن من نتائج وأثار..
في بادرة غريبة بأن مدلول يقف في عزاء والده المتوفي دون أن يذرف له دمعة.
ليبدأ عهداً جديد مع خاله الذي جاء ليأخذه ويكون كفيلا له ويعيش تحت جناحه وزوجته التي تركت أثرًا إيجابياً فيه.. وعلى غرابة من أحداث الرواية والذي كشف جفاء الخال وأخته وزوجها قبل وفاته إلّا إنه يظهر بوجهٍ يدفع بمدلول نحو مساره الذي اختار، بأن تكون البدلة البيضاء هي بوصلة واتجاه لحياته القادمة.
الخال المثقّف، الذي يكره السلطة، لكنه دفع بابن اخته ليختار القرب منها.. نعم فلم يغب عن الروائي أن ينسّق وبكلّ التفات ذكية كيف تأدلجت أفكار مدلول الفكرية، من مقهى الأدباء لخاله الذي يسكن في الشطرة، لوصوله إلى بغداد وتولّيه مركزا مهما ألا وهو خطوة واحدة ويكون اليد الاقرب للسيد الرئيس. في هذه المرحلة تكمن حياة الترف لمدلول وقد برع السعيد في وصف مشاهد الموت التي كانت تنال من الشباب العراقي شهداء في حروب لا يعرفون شرعيتها.
قد يصادف من يقرأ للسعيد للمرة الأولى إن الرواية تحمل رسالة تمجيد لسلطة البعث، ولكنها تهمة هو بريء منها.. فقد تعتبر الرواية تعرية لتلك الصورة بالبدلة البيضاء لا تمجيدها، خلافا للافت من تشكيلتها.. وهنا يظهر نجاح الرمزية في سرد الروائي. انها تفضح.. انها تنزع الستار عن أشخاص وصلوا للسلطة وخدموها ببذل النفيس.. سحقوا كرامتهم مبادئهم.. شعبهم لا حبا في حزب حاكم بقدر ما هو حبا للوصول، وتطبيقا لمفاهيم ترسّخت عن طريق الخطأ من أهل بسطاء لم يحسبوا النتائج.. لكنها لم تكن تبرئه لمدلول.. بل باءت أثر الكلمة المدوية في تسلسل الرواية في أحداثها لزيارة خاله في شقته للكرادة... كان الموقف دراميا من جهة مدلول الذي لم يتقبل فكرة أن يتهمه خاله بأذية الناس، ليصل إلى ما هو عليه، ليأتي الجواب صادماً.. بان لا أحد يصل دون أن يقدّم ما يصعب تقديمه ألّا وهو التخلّي عن إنسانيته..
جسدت الرواية اجتماعيا وسياسياً ونفسياً حالة الفزع بما هو آت للفترة التي سبقت غزو نظام الحكام السابق لدولة الكويت ، لشعب أرهقته الحروب وخسر الأرواح والدماء وكانت تلك الخطوة رعب لمرحلة لا تخلو من الدماء والدمار .. كانت رؤية السعيد تنطق من أعماق قلوب الناس ومخاوفهم ... نابعة من خوف لضياع ما تبقى من المستقبل المتهالك .. حيث لا آمان في هذا البلد ..
إن الجزء الأهم في الرواية هو عودة مدلول لمدينته بعد ٢٢ عاما.. وهذا موقفٌ صعب كان قد استحق ان يواجهه،
ليلاقي مصير الافتنان ببدلة وشارب لصاحب البدلة وحلم بالطيران نحو عالم ذاك الرجل دون أن يضع في باله المخاطر.. كانت إحاطة سعيد للرواية من ثكنات عدة النفسية والعاطفية والسياسية والاجتماعية ببراعة تامة أمر اعتاده قرّاء سعيد الذي اعتاد ان يفاجئنا باللا مألوف، بلغة غنية وتشويق عال، وحبكة ورسالة في صفحات الرواية.. لتكون النهاية سوداء تختلف عن بدايتها البيضاء كلون البدلة في الصورة..