ما تأثيرات الحدث الأفغاني في الوطن العربي؟
منذ ساعتين
يقينا أنه سؤال كبير يدور اليوم في الأوساط العربية الحكومية والشعبية، بعد أن عادت حركة طالبان إلى السلطة في أفغانستان. ربما كان يبدو للبعض أن البُعد الجغرافي عن العالم العربي يجعل مسارات التأثير والتأثر محدودة، وهذا صحيح إلى حد ما، لكن ما جعل العلاقة بين الطرفين ذات خصوصية وقلّص البُعد الجغرافي، إنما هي مرحلة الثمانينيات من القرن المنصرم، ففي عام 1979 اجتاحت القوات السوفييتية أفغانستان لتنطلق بعدها مرحلة الجهاد لتحرير هذا البلد.
وفي خضم هذا المشهد انضم العديد من الشباب العربي لهذه المسيرة، كما انخرطت حكومات عربية في دعم هذا الفعل بالمال والسلاح، وفي ترغيب الرجال بالتوجه إلى أفغانستان. ولأنها أول ساحة خاض فيها الشباب العربي القتال بصورة مباشرة وبشكل واسع، وبمباركه عربية ودولية، وتم إضفاء صفة البطولة على هذا الفعل، ولان القتال كان في معسكر واحد وببُعد ديني، فقد انعكست ظروف القتال بشكل واضح عليهم، وحدث تغيير كبير في مزاجهم، وبات سلوكهم العام، سلوكا عسكريا واضحا، يرفع من قيمة المواجهة مع الغرب والأنظمة الحليفة، ويحدد الحلول لجميع المشاكل بالقتال. كما تطورت واتسعت فكرة الجهاد لديهم، وعبرت الساحات المحلية إلى الساحات الأممية، وانتقل الاستهداف من العدو القريب إلى العدو البعيد.
وقد برزت كتابات من خنادق القتال في أفغانستان، تُنظّر إلى هذا الفكر وتثقف في هذا الاتجاه، لاقت رواجا كبيرا وانتشارا واسعا في العديد من الساحات العربية. كما دخل بُعد جديد في هذا الاتجاه، وهو نشوء تنظيم «القاعدة» في هذه الفترة، الذي جسّد الكثير من هذا الفكر في سلوكه، وصولا إلى الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، الذي أعلنت بعده الولايات المتحدة الحرب العالمية على الإرهاب، وجعلت من أفغانستان وبعدها العراق ساحات رئيسية لهذه الحرب، وبذلك تحولت أفغانستان ومرحلة الصراع الذي دار فيها إلى أيقونه يتوق الكثير من المقاتلين إلى تكرارها في أماكن أخرى. ومع عودة الكثير من الشباب العربي إلى بلدانهم بعد دحر القوات السوفييتية، بدأت الموشرات واضحة على بداية محاولات التصدي المسلح للحكومات المحلية، والسعي لتغييرها بالقوة. كما ظهر التصميم على استهداف الأصول الأجنبية في هذه البلدان. واليوم وبعد عودة حركة طالبان إلى السلطة بمقارعة تاريخية مسلحة ضد القوة الأعظم في التاريخ.. وبعد أن ذهب هباء كل ما أنفقته الولايات المتحدة بما يقارب التسعين مليار دولار على تسليح وتدريب القوات المسلحة الأفغانية، التي انهارت بدون أي مقاومة ضد مقاتلي حركة طالبان المتقدمين إلى معسكرات ومقرات هذا الجيش، وهروب الحكومة الأفغانية بشخص رئيسها، الذي كانت تعتمد عليه الولايات المتحدة، وفي ظل الفكرة الرومانسية التي تمثلها أفغانستان في عقل الحركات الإسلامية في الوطن العربي، خاصة السلفية الجهادية، فإن الحدث الأفغاني لا بد أن يكون أكبر جرعة أمل وحزمة ثقة كبيرة لهم، كما أنه سيشكل درسا كبيرا يعلمهم كيفية الصبر والمثابرة والتضحية، وصولا إلى تحقيق أهدافهم. صحيح أن الموقف اليوم مختلف في البلاد العربية، عما كان عليه في فترة الثمانينيات، كما ليس هنالك من دفع لمفهوم الجهاد كما كان آنذاك، ولم يعد هنالك دعم يُقدّم في هذا الاتجاه، ولا أنظمة عربية تشجع ولا فتاوى تحث، لكن تأثير حركة طالبان ونصرها المؤزر سيكون لهما تداعيات على المشهد السياسي والاجتماعي العربي، لأن القوى التي هزمتها طالبان ما زالت تُهيمن هي وحلفاؤها على المنطقة في نظر هذا التيار، كما أن المعادلة التي تقول بعجز قوى التدخل الخارجي عن تغيير موازين القوى الاجتماعية، عندما تكون لهذه القوى حاضنة شعبية وإرادة حديدية، قد ثبتتها حركة طالبان واقعا جديدا على الأرض، بعد أن كانت مجرد أفكار مثالية وأيديولوجية طوباوية يستخف بها البعض. وعليه فإن التحولات التي حدثت تجاه الحركات الإسلامية، من قبل النظم العربية التي دعمت فكرة الجهاد في الثمانينيات، والتي غيّرت بوصلتها من الدعم إلى المتابعة والرصد لهذه الحركات، وصولا إلى تصنيفها في خانة العدو، فإن الحدث الأفغاني سيكون له وقع كبير على هذه الأنظمة في اتجاهين: الأول الخوف من عودة أفغانستان كملاذ آمن لهذه الحركات. والثاني يبدو أنه قد تحقق وهو الرعب الذي أصاب هذه الأنظمة من الموقف الأمريكي، فلم يعد سهلا على الهضم القول إن الولايات المتحدة شريك يمكن الاعتماد عليه، بعد أن بدا المشهد وكأنها هي من أسقط النظام الذي كانت تحميه في كابول، حين اختارت التفاوض مع حركة طالبان، من دون أن تشرك الحكومة الأفغانية، أو تُعلمها بما تم الاتفاق عليه، لذلك قد تكون المرحلة المقبلة في منطقتنا العربية هي مرحلة تحرك الأجهزة الأمنية، واستخدام العنف كوسيلة لمنع حالة الاستلهام الفكري والعملي من التجربة الأفغانية من قبل المعارضات السياسية، خاصة الإسلامية منها، لكن سيكون ذلك قصر نظر فادحا، إن تم الأخذ بهذا الاتجاه كخيار وحيد تلوذ به الحكومات العربية لعبور الوضع الراهن. فهنالك طريق آخر يمكن الاستثمار فيه للخروج من حالة ردود الفعل المتوقعة على الحدث الأفغاني، ألا وهو طريق الحل السلمي للاستعصاءات السياسية التي يعانيها الواقع العربي، لكن كيف؟
- اقتباس :
- حجم التناقضات والصراعات عميق جدا في المنطقة العربية، ومشكلة النظام الرسمي العربي أن الأمن يقود سياساته ويشكلها وليس العكس
من المعروف أن السياسة لا تعرف الثبات، وهي كتلة من المتغيرات، ولأن مرحلة التقييم الحالي، على الأقل، تقول إن هنالك مخاطر مقبلة، وإن السياسات الدارجة أنتجت انسدادت في الأفق، ولم تحقق مكاسب تذكر. هنا يصبح لا بد من التغيير في السياسات الداخلية لبعض الأنظمة العربية، ومراجعة سياساتها الخارجية وأولوياتها، والانفتاح على كل المعارضات ومنها، الحركات الإسلامية المحلية، والتنمية البشرية، وتوسيع الشراكة السياسية، والتخلي عن امتلاك الدولة، وتصفير المشاكل البينية في المحيط العربي، والابتعاد عن سياسات الترقيع في الدول التي تعاني أزمات حقيقية تضرب في الشرعية السياسية لحكوماتها في العراق ولبنان واليمن وسوريا وليبيا. كل هذه مخارج آمنة للعبور من الزلزال الأمني المقبل من أفغانستان وتبعاته، الذي سبقه خراب اقتصادي أحدثه وباء كورونا. كما بات من المُلح أن يسأل العقل الاستراتيجي العربي نفسه، ما الذي جنته الأنظمة العربية من كل السياسات البائسة التي مارستها؟ ما هي المكاسب؟ وما هي الخسائر؟
إن حجم التناقضات والصراعات عميق جدا في المنطقة العربية، والمشكلة الأعظم لدى النظام الرسمي العربي أن الأمن غالبا ما يقود سياساته ويشكلها وليس العكس. لذلك هو غالبا ما يستسهل الحل الأمني للخروج من الاستعصاءات السياسية والاجتماعية، بمعنى أنه لا يستخدم الإقناع كوسيلة من وسائل تحقيق السياسات الداخلية وفرض القانون. وهذا السلوك يجرده من الشرعية فيتحداه الشعب، فيذهب لمواجهة هذا التحدي الشعبي باللجوء إلى القوة المادية والقمع، ظنا منه أن ذلك يؤدي إلى الخضوع.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية