عشرون عاما من الإبداع الفني في مناهضة الحرب
منذ 6 ساعات
بعيدا عن نيويورك وأفغانستان، عن سنوية الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، وما جره التفجير من مصائب على العالم، كان هناك، في لندن، حضور من نوع آخر. ليس إحتفالا بل تذكيرا بمناسبة، غير رسمية، تقف على الجانب الآخر من إعلان إدارة بوش « الحرب على الإرهاب» واحتلال أفغانستان والعراق. في قاعة، بشرق لندن، بدلا من أصوات القنابل والصواريخ ووقع أحذية القوات العسكرية وصراخ الضحايا، تعالت أصوات المحتجين ضد الحرب ممزوجة بالفن. بالألوان والموسيقى، والأفلام، والتصوير، والمطبوعات، واللوحات، واللافتات الخشبية واللافتات المنسوجة باليد. شعارات وملصقات فنية تمثل بشاعة الحروب التوسعية الإمبريالية، وأخرى يتحدى فيها الفنانون المشاركون الموقف السياسي الخارجي الذي قاد بريطانيا، على مدى عشرين عاما الأخيرة إلى حرب مستمرة، ويعطون صوتًا للحركة المناهضة للحرب، منسوجا بتحقيق العدالة، عبر موقف مبدئي واضح ضد الحرب والأحتلال في أفغانستان والعراق ونظام الفصل العنصري في فلسطين. كانت الحركة المسماة «أوقفوا الحرب» قد تأسست في عام 2001، إثر المظاهرات ضد غزو أفغانستان، ونجحت في تحشيد الملايين ضد الحرب على العراق عام 2003، ولاتزال مثابرة على تنظيم المظاهرات المطالبة بانهاء إحتلال فلسطين وسياسة الاستيطان الصهيونية، مساهمة بتشكيل الوعي السياسي لجيل كامل.
في تحشيدها ملايين المواطنين البريطانيين، ضد الحروب الخارجية، ألهمت حركة « أوقفوا الحرب» عددا كبيرا من الفنانين والمصممين وصانعي الأفلام والمصورين والموسيقيين الذين ساعدوا الحركة على إبراز رسالتها، لإنشاء سجل نابض بالحياة لأنشطتها وإنتاج مجموعة من الفنون المناهضة للحرب التي خاطبت الملايين. حيث وضع المساهمون، جميعا، بأعمالهم، حدا للتساؤل الذي لاتزال بعض الدوائر الثقافية تجتره وهو: هل بامكان الفن، بأنماطه، أن يؤدي دورا في التغيير المجتمعي والسياسي؟ وهل بإمكانه تقديم شيء، مهما كان، في فترات الصراع والحروب خاصة؟
إن سردية عشرين عاما من الإنتاج الفني في الحركة المناهضة للحرب، تقول نعم لدور الفن في الحث والمساهمة في سيرورة التغيير. إذ تنتفي المسافة بين العمل الفني والنشاط في الحياة العامة، وهو ما جعل الحركة المناهضة للحرب تنبض بالحياة وزّودها بالقدرة على التعبئة الجماهيرية غير المباشرة. فبالاضافة الى العمل السياسي التعبوي المباشر، هناك العديد من مستويات العمل التي يجب اتخاذها عند السعي من أجل التغيير، وأحدها هو التعبير الفني. وهو شكل من أشكال النشاط العام، له بحد ذاته القدرة على مواجهة الظلم، وتجاوزه من خلال تقديم وجهات نظر مغايرة للسائدة والمتحكمة بالمجتمع. وغالبًا ما تكمن قيمته في تزويد الناس بمنظور وطرق جديدة لتصور العالم. فالنشاط الفني أداة مهمة لتشكيل الوعي الاجتماعي، وممارسة ديناميكية تجمع بين القوة الإبداعية للفنون، للتحريك عاطفياً، مع التخطيط الاستراتيجي للنشاط الضروري لإحداث التغيير الاجتماعي. وهنا تكمن قوة الفنان الناشط في حركة تدعو وتعمل من أجل التغيير.
- اقتباس :
من المعروف أن حركات الاحتجاج والانتفاضات الشعبية تُلهم الفنانين والأدباء. وهذا ما رأيناه بوضوح في إنتفاضة تشرين 2019 في العراق
من هذا المنطلق، تمكن الفنانون الناشطون في الحركة المناهضة للحرب من إنتاج أعمال أصبحت جزءا من ذاكرة جيل بريطاني يرنو الى تحقيق العدالة وينأى بنفسه عن تاريخ بريطانيا الاستعماري. من بين الأعمال المعروضة لافتات مبقعة بالدم ولوحة للفنان بانكسي المعروف بلوحاته وجدارياته ضد النظام الصهيوني العنصري. في مجال الأفلام، وثق المخرج أمير أميراني بفيلم « نحن كثرة» واحدة من أكبر المظاهرات بتاريخ بريطانيا، حين خرجت الجماهير احتجاجا على وقوف حكومة رئيس الوزراء توني بلير الى جانب جورج بوش في شن الحرب العدوانية ضد العراق. وساهم الموسيقي والمفكر براين إينو بمقطوعة موسيقية لم تُقدم سابقا، وكان إينو واحدا من أوائل من كتبوا ونشطوا ضد الحرب متطرقا إلى مستويات مناهضة الحرب المتعددة ومنها الموسيقى كسلاح قوي له إستخداماته المتناقضة، كما حدث حين أُستخدم المحققون الأمريكيون أغاني البوب للتعذيب في المعتقلات بالعراق. ولا يمكن نسيان فوتومونتاج كينارد فيلبس الذي أصبح رمزا للدور البريطاني في الحرب، المتمثل بتوني بلير المبتسم إبتسامة المنتصر، وهو يحمل هاتفه الذكي لالتقاط صورة ذاتية، فرحا بنفسه وما فعله، بينما يتصاعد خلفه دخان حقول النفط المحترقة، مغطيا الأفق كله.
ضم المعرض بطاقات لمصممة الأزياء العالمية فيفيان ويستوود ( عمرها 79 عاما) التي قامت، أخيرا، بتعليق نفسها داخل قفص طيور موضوع على إرتفاع عشرة أقدام في الهواء، أمام محكمة بوسط لندن، وهي ترتدي بدلة صفراء كاملة وقبعة بيسبول، صارخة بأعلى صوتها « أنا جوليان أسانج. أنا طير كناري. إنني نصف مسمومة من الفساد الحكومي وتلاعب الحكومات بالنظام القانوني، بينما لا يعرف سكان العالم البالغ عددهم 7 مليارات ما كان يحدث». بعملها الجريء صّورت ويستوود ما قام به أسانج في كشف حقيقة السياسة الأمريكية من خلال نشره وثائق « ويكيليكس» بأنه مثل طائر الكناري الكاشف عن السموم في المناجم.
ولم تقتصر نشاطات « أوقفوا الحرب» على تنظيم الندوات والمظاهرات والتوعية بأطماع الحرب الامبريالية المبنية على الاستغلال وتسويق السلاح، بل تعدتها إلى إصدار الكتب وإقامة الأمسيات الأدبية، لتجذب بذلك جمهورا من المهتمين بالادب والشعر. وكان من أهم إصداراتها التي ساهمتُ فيها، شخصيا، كتاب « حرب بلا نهاية» و« لامزيد من الموت».
من المعروف أن حركات الاحتجاج والانتفاضات الشعبية تُلهم الفنانين والأدباء. وهذا ما رأيناه بوضوح في إنتفاضة تشرين/ أكتوبر 2019 في العراق. حيث بلغ المُنتج الإبداعي، من جداريات ولوحات وموسيقى وأغان ومسرحيات وشعارات ورسوم كاريكاتير، خلال فترة زمنية قصيرة نسبيا، ما يعادل المُنتج خلال عقد من الزمن. وهذا ما عاشته الحركة المناهضة للحرب، إذ أبدعت على مدى العشرين عاما الماضية، أعمالا، لم تنجح في إيقاف الحروب، إلا إنها نجحت في أن تكون العدسة التي يرى من خلالها الجيل الجديد من البريطانيين والعالم كيف تُشن الحروب، وممارسات الهيمنة الامبريالية، والعولمة الوحشية، وسياسة تفتيت الشعوب المبنية على العنصرية والنظرة الفوقية.
كاتبة من العراق