الإنهاك النفسي وأمراض الحضارة
د.أسعد شريف الامارة
الإنهاك النفسي وأمراض الحضارة
الكثير منا ينتابه الخوف من الفشل وعدم القدرة على كفاية معيشته اليومية في عالمنا اليوم، عالم التحضر وعالم التكنولوجيا، عالم البحث عن شهادة عليا، وأعلى من الشهادة الجامعية ربما الماجستير والدكتوراه، والاسراع في التخصص في مجال الطب بكل فروعه، وحتى ممن أمتهن العسكرية وأصبحت حرفته يرغب في أن يصبح من ملازم إلى عقيد بأسرع وقت متاح بلا خبرة أو تدرج وظيفي، أنه عالم مستعجل في شق عباب السنين والشهور، عجلة ليس لها مثيل أو مقارنة في العالم الخارجي، أقصد في بلدان العالم الاخرى المتقدم، حيث عرف عن التأني في الحصول على الشهادة وكسب الخبرة، والتريث في التواصل مع المستجدات، إلا إننا في هذه البقعة من بقاع العالم شعارنا العجلة ثم العجلة، وإلا فاتك قطار العمر، هذا العصر عصر عجيب يتحقق فيه أعظم تقدم وتكنولوجيا وفيه يظهر أعلى درجات العجلة، تنافس من أجل الحصول على مكان في هذا الزمن حتى وإن سبب القهر للآخر، عصرنا هذا عصر تجتمع فيه المتناقضات على نحو فاق جميع ما سبق من عصور، عصر يشهد التناقض في القيم، الدين والسياسة معًا في تسابق مع الحياة، وكلاهما يبحثان عن مصالحهما في تحقيق أهدافهما، ووقودهما إنسان اليوم في عالمنا العربي والعالم الثالث.
إن أزمة اليوم هي أزمة وجود إنساني أزمة اثبات لمن يحقق الوصول مهما كانت النتائج وما يدفعه الفرد في هذا الصراع غير المنتهي.
ان الفرد منا يستمر في معاناته مع الصراعات الداخلية في الوصول لاهدافه، علمًا انها أكثر خطورة لأنها غير مرئية هذه الصراعات، ولكنه دخل في دوامة المنافسه في كل مجالات الحياة، وبدأها من نفسه، ومع نفسه، ويعتقد ان الحياة باتت حلبة صراع تبدأ من الصباح ولا تنتهي إلا في ساعة متأخرة من اليوم، يقول علماء النفس أن الشخص الذي يعيش في دوامة الصراع المحتدم من أجل تحقيق أهدافه البسيطة والكبيرة لابد من أن يعاني من الصراع مع الآخرين والصراع الداخلي، فهو خائف نفسيًا، وخائف في وجوده، خائف على كيانه الذي يرتبط بمستقبله، يستدعي المكبوتات التي خزنها في لاشعوره، واستدعاها من خلال أنواع كبته، هذه الآلية صحيحه بالنسبة إلى كل الآلام السيكولوجية أيا كانت، صراع الحصول على الرزق اليومي، صراع المنافسة على الشهادة، صراع الحفاظ على وجوده وعودته سالمًا لأسرته بلا اثار جسدية، أو الالام في الركبة أو المفاصل، أو الظهر، أو في احشائه الداخلية التي لا يدرك خطورتها إلا بعد أن يضع نفسه على السرير ويتمدد على الفراش، حينها تبدأ المعدة بالآنين، أو ارتفاع نبضات القلب، أو الزيادة في ارتفاع ضغط الدم، فضلا عن استخدام مفرط في لفائف السيكاير بأنواعها واستخدام الشاي بشكل شره ومفرط.
تؤكد لنا أدبيات العمل النفسي والخبرة فيه يحدث الارهاق عندما يصرف الإنسان من طاقته ما يتجاوز إمكاناته، فالاستعمال المفرط لأي عضو من اعضاء الجسم، كالدماغ مثلًا يعني إنقاص قدرته، مثله في ذلك مثل السيارة على وجه الدقة. حيث يؤدي بالنتيجة إلى بدء العطل فيه، وكذلك المفاصل التي تغدر بصاحبها، أو القدمين التي لا تعين صاحبها على الوقوف وغيرها. يصاحب ذلك وبشدة الجوانب النفسية التي تربك صاحبها، وابرز علامتها عدم القدرة على التركيز، والنسيان وبالاخص نسيان الاسماء والاشياء، رغم أن الفرد لم يبلغ بعد من عمره العقد الرابع ، أو الخامس.
ان الحاجة تدفع الإنسان إلى أن يغامر ويخاطر من أجل تحقيق هذه الحاجة وإشباعها، أعني الرغبة الإنسانية وهذه الرغبة تكمن خلفها دوافع لا حصر لها ويقول الاستاذ الدكتور" فرج أحمد فرج" رحمه الله ان رغبة الإنسان في أن يصير موضع رغبة الآخر .. لذلك فالعلاقة بموضوع الحاجة هي في جوهرها علاقة إفناء، فإنسان اليوم يفنيه الإجهاد والضغوط بانواعها والازمات بمختلف أشكالها ويواجه الصدمات حتى يقتله الإعياء النفسي والارهاق والانهاك، أو يستمر في تحقيق رغبته فالجائع يستهلك صحن طعامه وينصرف عنه، او عما بقي فيه من طعام إذا ما أصاب شبعًا، وعندما يتحقق للجائع الشبع الكامل نراه ينصرف عن الطعام وينصرف عن التفكير فيه والإنشغال بموضوعات اخرى من أمور الحياة.. وهكذا يبقى السعي مستمرا في البحث عن الاشباع من أمور الدنيا والحياة، أنه إيقاع دوري يتصاعد ويتفجر وينطفئ ولا يوقفه إلا حالة الاعياء النفسي والانهاك المرضي.
يبدأ الأضطراب النفسي " العصاب" بالظهور ويكون العامل العصابي التكويني المسبق الذي يفسر بأن فردًا ما يكون أكثر عرضة من فرد آخر تجاه حدث واحد كما يقول البروفيسور "عدنان حب الله" ويؤكد رؤية "سيجموند فرويد" بان ظهور عصاب ما "مرض نفسي" إنما يعزى إلى تداخل عاملين: الاول صدمي والآخر تكويني، فإذا اجتمعا معًا يزعزعان إذا ما تعديا شغف الاحتمال لدى الفرد ويوقعانه في المرض النفسي وهكذا يكون مدخل الإنهاك النفسي هو المدخل لاختلال الصحة الجسدية والنفسية، وهو من اضطرابات الحضارة الجديدة.