ما حقيقة مؤتمر اربيل الاخير؟ ولماذا جاء عنوانه غامضا وكلمات المشاركين فيه مثيرة للسخرية؟ ولماذا عُقِدَ هذا المؤتمر الآن ولمصلحة من؟
د. سعد ناجي جواد
ما حقيقة مؤتمر اربيل الاخير؟ ولماذا جاء عنوانه غامضا وكلمات المشاركين فيه مثيرة للسخرية؟ ولماذا عُقِدَ هذا المؤتمر الآن ولمصلحة من؟
عندما تنحط الدول لا تنحط قدراتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والادارية فقط، وانما يكون الانحطاط الاكبر هو الانحطاط الاخلاقي الذي يصل اليه عدد غير قليل ممن يدعون انهم يحملون جنسيتها.
في العراق على سبيل المثال انتشر في بغداد في عام 1917 تعبير (ابناء السقوط) اطلقه البغداديون على الحثالات الذين هبوا للتعاون مع الجيش البريطاني الغازي بعد احتلال بغداد، او الذين عمدوا الى استغلال الاحتلال لكي يعبثوا بقيم المجتمع. وهذا التوصيف الجميل كان يحمل معنين دالين جدا. الاول توصيف من حاولوا ان يتسيدوا المشهد بعد سقوط بغداد توصيفا يليق بهم، والثاني يعني انهم نتاج عمل ساقط ومنحط. استعاد العراقيون هذا التوصيف في عام 2003 بعد احتلال بغداد. ثم ازداد ايمانهم ان هذا التوصيف هو الدقيق بعد ان شاهدوا هجمة كل من هب ودب للاستئثار بكل شيء في العراق، دون اي اعتبار لمعاناة العراقيين من سنين الحصار العجاف ومن نكبتهم بان يشاهدوا بلدهم قد احتل بدعاوى واكاذيب وتلفيقات فبركت بطريقة مقصودة. والاكثر ايلاما هو الانحدار الاخلاقي عند تلك الفئة الذي وصل الى الحد الذي اصبح فيه هدف خدمة الاجنبي عند هولاء افضل من خدمة الوطن والشعب. وهذه الحقيقة ظهرت منذ ان بدات من اطلقت على نفسها (المعارضة الخارجية) اجتماعاتها برعاية امريكية-بريطانية-اسرائيلية، ووصلت الى الحضور على ظهر الدبابات الامريكية واختتمت بالمطالبة بان يكون يوم احتلال بغداد هو العيد الوطني العراقي. ما لم يتصوره العراقيون ان اعداد من يمكن ان يوصفوا بانهم من (ابناء السقوط) سيتضخم بهذه الدرجة.
ما اعاد هذه الذكريات المؤلمة هو ما حدث في اربيل يوم الجمعة الماضي، حيث عُقِدَ مؤتمرا غامضا اثيرت حوله الكثير من علامات الاستفهام والتعجب. ابتداءا قال عنه منظموه (والذين ظهر انهم اسرائيليون صهاينة اتخذوا من معهد يديره صهيوني من اصل عراقي معروف بتوجهاته الصهيونية، غطاءا لهم) انه ضم 300 شخصا من ست محافظات عراقية وصفوا بكونهم (رجال عشائر) و (جنرالات سابقين) وممثلي منظمات مجتمع مدني. اما الهدف فلقد انقسم الى قسمين: الاول كما جاء على لسان بعض المتحدثين هو لمطالبة الحكومة العراقية للاعتراف بإسرائيل لانها (دولة شقيقة وقوية ومعترف بها في الامم المتحدة!) وان (لمواطنيها الحق في العيش بسلام على ارضهم!). في حين ان بعض المتحدثين تكلموا عن (الحاجة لدعم النظام الفدرالي)، هدفين لا علاقة لهما ببعض.
عنوان الموتمر كان هو الاخر غامضا جدا، حيث اطلق عليه اسم (مؤتمر السلام والاسترداد)، كلمتين ايضا لا علاقة لهما ببعض. واذا كانت كلمة السلام الخادعة مفهومة، الا ان كلمة (الاسترداد) تبقى غامضة وغير مفهومة. استرداد ماذا؟ واسترداد مِن مَن؟ واخيرا فان كلمات المشاركين فيه، والتي كان واضحا انها كتبت لهم وان من يستمع اليها لا يمكن ان يحبس ضحكته على طريقة التلعثم في قراءة بعض المفردات، حتى ان احدهم قرا عبارة (خطة السلام الابراهيمي)، على انها (اتفاقيات ابراهيم علي).
بتحليل بسيط وسريع واستنادا الى بعض المعلومات يبدو ان الجهة التي دعت الى هذا المؤتمر كانت قد جهزت له نوعين او مجموعتين من المشاركين، مجموعة من العملاء، كانوا على علم باهداف المؤتمر، وجاهروا بالمطالبة في ان يَنظَم العراق الى حملة الاعتراف باسرائيل. ومجموعة إدعت (ويبدو ان قسما منهم كان صادقا في إدعائه) انهم اخبروا بان الموتمر هو للترويج لفكرة دعم النظام الفدرالي في العراق وتوسيعه ليشمل المحافظات الغربية، ولهذا شاركوا فيه بكثافة. اما كلمة استرداد، فلقد كان المراد منها (استرداد اليهود العراقيين الذين هاجروا الى اسرائيل لممتلكاتهم او تعويض عنها). ويبدو ان الاسلوب الصهيوني المخادع قد انطلى على غالبية المشاركين. وقد اعترف بعض من وجهت لهم الدعوة بالخديعة التي تعرضوا لها عند الحضور، وان غالبيتهم اعتقدوا انهم يشاركون في مؤتمر عن الفدرالية، ولكن يبقى العتب على الذين يقولون انهم إستُغفِلوا حيث انهم ظلوا جالسين يستمعون الى خطابات العمالة تلقى عليهم، ولم تهتز غيرتهم الوطنية والاخلاقية، ولم يخشوا على سمعة عوائلهم وعشائرهم. والعتب على من وصل الى ارذل العمر ورضى ان يكون دمية بيد مجموعة من العملاء. ولا يستطيع احدا من المشاركين ان يدافع عن نفسه بالقول بانه لم يكن يعلم ان اسرائيل هي من يقف خلف هذه الفعالية، خاصة بعد شارك ابن شيمون بيريز في المؤتمر والقى كلمته بالعبرية، حاثا المشاركين على الدفع باتجاه الاعتراف العراقي باسرائيل والمساعدة باعادة املاك الذين هاجروا الى فلسطين المحتلة. ولم يقل اي من الحاضرين لبيريز وماذا عن ممتلكات ومساكن واراضي الشعب الفلسطيني التي سُلِبت وهُجِرَ اصحابها ولا يزالون محرومين من حق العودة الى وطنهم.
ردة فعل ادارة اقليم كردستان العراق التي عقد فيه المؤتمر لابد وان ترسم بسمة ساخرة على كل من يستمع لها، حيث جاء في البيان الرسمي الصادر عن وزارة داخلية الاقليم (ان الاجتماع عقد من دون علم وموافقة ومشاركة حكومة الاقليم، وهو لا يعبر باي شكلٍ من الاشكال عن موقف اقليم كردستان) واضاف بانه (سيتم اتخاذ الاجراءات اللازمة لمتابعة كيفية انعقاد هذ الاجتماع). علما بان الموتمر عقد في اكبر فنادق اربيل وتم تامينه من قبل قوات الامن الكردية!
الحكومة العراقية بكافة اطرافها استنكرت هذا المؤتمر واعتبرته لا يمثل الموقف الرسمي العراقي وكذلك فعلت كل الاحزاب السياسية، ليس لانها حقيقة ضد هذا التوجه، وانما لسببين اخرين: الاول لانها مقبلة على انتخابات، وهي تعلم جيدا ان تاييد ما جاء في الموتمر يعني خسارة الشارع العراقي، الذي لا يمكن ان يغير موقفه الداعم للحقوق الفلسطينية المشروعة. والثاني هو خوفهم من النفوذ الايراني المنتشر في العراق، والذي على الرغم من كل الملاحظات عليه فانه يجب الاعتراف انه لولاه لانضم العراق الى مجموعة المعترفين باسرائيل في وقت مبكر.
اخير وليس اخرا يمكن القول ان الاهداف الاسرائيلية الحقيقية من وراء هذا الموتمر (والاطراف الخليجية التي مولته ودعمته) هي:
اولا اطلاق بالون إختبار لمعرفة رد الفعل الرسمي والشعبي العراقي على اقامة علاقات مع اسرائيل، الا ان من فكر بذلك لا بد ان يكون على قدر عال من الغباء، لانه جاء في وقت غير مناسب جدا، (في وقت انتخابات).
ثانيا لابقاء فكرة ( التطبيع/الاعتراف) بإسرائيل، في التداول، او لبعث الحياة فيها، بعد ان اثبتت هذه العملية فشلها ومحدوديتها وعدم تمكنها من الانتشار اكثر كما كان مخططا لها.
ثالثا للتغطية على الفشل الاسرائيلي في عدة امور، مثل الفشل في كسر شوكة المقاومة في غزة وانتصارها الاخير في معركة سيف القدس، وفي العجز عن افشال عملية حزب الله في ايصال النفط الايراني والمحروقات الى لبنان، وللتغطية على الفشل في جعل الولايات المتحدة تتفق معها على توجيه ضربة عسكرية لايران. والاهم عملية نجاح الاسرى الابطال الستة في تحرير انفسهم بطريقة اثارت اعجاب العدو قبل الصديق.
لكل هذه الاسباب تحاول اسرائيل ان تحقق لنفسها (انتصارات) وهمية عن طريق اتباع اساليب مخادعة واسلوب الضحك على الذقون.
على الرغم من حقيقة ان عقد هذا المؤتمر ادمت القلب قبل العين، وعلى الرغم من القدر الكبير من الاسى والحزن الذي خيم على نفوس الكثيرين، خاصة بعد مشاهدة هذا العدد من عملاء اسرائيل يتحدثون بعلانية، واكثر بعد سماع كلمات بعض المتحدثين الداعمة للكيان الغاصب، الا ان رد الفعل الشعبي الرافض والاستهجان الكبير، بل والاحتقار، الذي تعامل به عموم العراقيون مع من تحدث في ذلك الموتمر والتبرؤ منهم، وبالذات العشائر والعوائل الذي ينتمي اليه بعض المتحدثين، لابد وان يعيد الثقة بالنفس وبالموقف العراقي العام من اسرائيل، ولا بد وانه شكل لطمة عنيفة مستحقة لكل من يعتقد ان (ابناء السقوط) يمكن ان يكتبوا تاريخ العراق او تاريخ الامة.