"لا يغتصبون الأبقار".. محنة مأساوية للاجئين على حدود بولندا
الحرة / ترجمات - واشنطن:مشهد مأساوي شهدته حدود بولندا الشرقية جسد معضلة إنسانية، وفرض تساؤلا ستكون إجابته مريرة بكافة الأحوال.
أب يهيم على وجهه بالغابة التي غمرتها الأمطار، محتضنا ابنته المريضة. مضت 3 أيام لم يتذوق خلالها تقريبا طعم الزاد، فيما البرد يكاد يجمد كل شيء حوله. كان مبتلا من الرأس إلى القدم، يرتجف في مواجهة خيار رهيب.
هو كردي عراقي، عرفته صحيفة "نيويورك تايمز" باسمه الأول، كروان. ابنته عمرها عامان تعاني من الشلل الدماغي والصرع، لفها الأب بمعطف رقيق محاولا حمايتها من البرد، لكنها كانت بحاجة إلى رعاية طبية عاجلة.
كروان قاد عائلته عبر الحدود من الجارة بيلاروسيا، لكنه وصل الآن إلى منطقة غابات يحرسها المئات من الجنود البولنديين وقوات حرس الحدود.
لم يعد أمام العراقي المكلوم سوى اختيار إنساني يقطر قسوة: هل يطلب مساعدة طبية من رجال الأمن القريبين، مما يعني حتما إعادته إلى بيلاروسيا وإنهاء رحلة هربه اليائسة إلى أوروبا؟ أم يترك فلذة كبده على تلك الحالة التي قد تؤدي إلى موتها في أي لحظة.
قال له ناشط بولندي وفد للمنطقة للمساعدة: "يمكنني طلب سيارة إسعاف من أجلك، لكن حرس الحدود سيأتون أيضا"، لكنه احتار في البحث عن إجابة.
وجدت عائلة كروان نفسها، دون إرادة، في قلب مناوشات "جيوسياسية" بين بيلاروسيا وبولندا، أدت إلى كارثة إنسانية جديدة تضرب أوروبا.
خلال الأسابيع الأخيرة توفي ما لا يقل عن 5 أشخاص عبروا الحدود بشكل غير قانوني إلى بولندا، بعضهم من جراء انخفاض درجات الحرارة والإرهاق، بحسب السلطات البولندية، بينما تم إنقاذ ثلاثة آخرين في اللحظة الأخيرة من الغرق بأحد المستنقعات، وفقا لما نقلته الصحيفة الأميركية.
يقول الناشط البولندي، بيتور بيستريانين: "سيموت الكثيرون مع تفاقم الأحوال الجوية"، "حكومتنا تعامل هؤلاء الناس بشكل أسوأ من المجرمين الذين يتم اقتيادهم إلى السجن.. كأنهم ليسوا بشرًا، فقط قمامة يتم التخلص منها.. ما هي الخطة.. قتل الناس؟"
وحسب "نيويورك تايمز"، ثمة أدلة قوية تشير إلى أن الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، يستخدم المهاجرين لمعاقبة الاتحاد الأوروبي، بعدما فرض الأخير عقوبات على بلاده إثر حملة قمعية أعقبت انتخابات رئاسية مشكوك بنتائجها.
وحسب "خطة الانتقام" يُسمح للمهاجرين، الذي يفر بعضهم من الفقر في أفريقيا، ومن الحروب في دول مثل أفغانستان والعراق، بدخول بيلاروسيا، ثم يتم تشجيعهم على العبور إلى بولندا، العضو في الاتحاد الأوروبي، على أمل المرور لاحقا إلى القارة الغنية.
بيد أن الحكومة البولندية، المصممة على إبعاد اللاجئين والمهاجرين تحت دعاوى اقتصادية، تواجه ذلك بإجراءات أمنية مشددة على حدودها الشرقية، مع إعلانها منطقة "محظورة على الجميع باستثناء السكان" في محاولة على ما يبدو لإبعاد أعين وسائل الإعلام والمنظمات الإنسانية.
وبينما تشير استطلاعات الرأي إلى أن أغلبية البولنديين يؤيدون نهج حكومتهم، فإن سلطات بولندا بدأت مؤخرا بمواجهة المعارضين لسياستها بأخرى مضادة تتمثل في "شيطنة المهاجرين"، وصولا إلى تصويرهم على أنهم "إرهابيون"، و"منحطون جنسيا لدرجة الاعتداء على الأطفال، واغتصاب الحيوانات".
نتائج عكسية
لكن تلك السياسة بدأت تأتي بنتائج عكسية، بعدما أثارت استهجان عدد من المسؤولين، بالإضافة إلى الكنيسة الكاثوليكية، وهي قوة ذات نفوذ في بولندا، نادراً ما تنتقد الحكومة، لكن رئيسها اعتبر صراحة أنه "من المؤذي للحكومة أن تشير إلى كل لاجئ باعتباره إرهابي، أو مرتكب لجريمة جنسية".
وفي تقرير مفصل، وثقت منظمة العفو الدولية، الأسبوع الماضي، كيف احتجز حرس الحدود البولنديون 32 طالب لجوء أفغانياً "في ظروف مروعة لأسابيع"، قبل إعادتهم قسرا إلى بيلاروسيا في انتهاك للقانون الدولي.
بينما قالت مؤسسة هلسنكي لحقوق الإنسان إن "بولندا تقوم بعمليات غير قانونية لصد المهاجرين وإعادتهم جماعيا عند حدودها مع بيلاروسيا".
كما ندد نائب المفوض البولندي لحقوق الإنسان بطريقة معاملة طالبي اللجوء باعتبارها "فضيحة" تُظهر "أحلك صورة ممكنة لبولندا".
وتعتبر وارسو، وفق تصريحات نقلتها قناة "دويتش فيلا" الألمانية عن المتحدث باسم الرئيس، أندجي دودا، أن "الوضع على الحدود صعب وخطير (..) ويجب اتخاذ مثل هذه القرارات لضمان أمن بولندا والاتحاد الأوروبي".
وتقول إن أكثر من 11 ألف شخص حاولوا الدخول بشكل غير قانوني من بيلاروسيا في أغسطس وسبتمبر، مقارنة بنحو 120 فقط طوال العام الماضي.
وبدأت موجة الزيادة هذا الصيف بعدما فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على بيلاروسيا لإجبارها طائرة ركاب تقل منشقا على الهبوط، حيث وجهت حكومة لوكاشينكو اللاجئين في البداية نحو ليتوانيا، ثم حولت وجهتهم لاحقا جنوباً صوب الحدود البولندية، عقب تشييد ليتوانيا سياجا عازلا على حدودها.
واتبعت بولندا لاحقا الأساليب ذاتها بنصب لفائف من الأسلاك الشائكة على حدودها وتقوية لحواجز القائمة، في محاكاة لسياسات هنغاريا خلال ذروة أزمة المهاجرين في 2015.
وبينما يدعم الاتحاد الأوروبي، الذي لا يريد تكرار تلك الأزمة ومواجهة موجة أخرى من التعاطف الشعبي مع السياسيين الشعبويين المناهضين للهجرة، تلك السياسات، فإن الأمر لم يخل من "تجاوزات" مثيرة للدهشة.
وقبل أيام، أثار وزير داخلية بولندا، ماريوش كامينسكي، غضبا عارما لدى الأوساط الليبرالية، وانزعاج بعض أنصار الحزب الحاكم، حين عقد مؤتمرا صحفيا الأسبوع الماضي، أشهر خلاله ما زعم أنها صورة مأخوذة من هاتف محمول تظهر مهاجرا "يغتصب بقرة".
وعنونت قناة TVP، وهي محطة تلفزيونية حكومية، تغطيتها بشأن إحاطة الوزير الإعلامية قائلة: "لقد اغتصب (المهاجر) بقرة.. وأراد الدخول إلى بولندا.. تفاصيل عن المهاجرين على الحدود".
ثم تبين سريعا أن تلك الصورة المسيئة ليس لها علاقة بالمهاجرين، وإنما تعود إلى فيلم إباحي متاح على الإنترنت، وتضم حصاناً وليس بقرة.
لقد استقبلت بولندا مئات من طالبي اللجوء الذين تم نقلهم جواً من أفغانستان منذ تولت طالبان السلطة في أغسطس، لكن العداء للمهاجرين الذين يتسللون عبر الحدود كان سمة ثابتة لحزب القانون والعدالة الحاكم في البلاد، بحسب "نيويورك تايمز".
وفي عام 2015، قبل الانتخابات التي أوصلته إلى السلطة، وصف زعيم الحزب المهاجرين بأنهم أشخاص يحملون "جميع أنواع الطفيليات".
ومع ذلك، يرى كثيرون في بولندا أن ما فعله وزير الداخلية قد "تجاوز الحد".
ويقول ماريك نازاركو، عمدة ميتشالوو، وهي بلدة قريبة من حدود بيلاروسيا: "إذا فعل أي شخص آخر ما فعله، سيودع في السجن لعرضه صورًا تحرض على الكراهية العرقية بطريقة فجة".
وشجب نازاركو أحاديث كامينيسكي عن "المدن البولندية الشرقية المحاصرة" من قبل "منحرفين جنسيا يفدون من بيلاروسيا" واصفا إياها بـ"أكاذيب حقيرة".
وتابع العمدة، وهو ضابط شرطة سابق: "هؤلاء الأشخاص ليسوا مجرمين ولم يخلّوا بالنظام بأي شكل من الأشكال في بلدتي.. إنهم أناس مسالمون ويائسون يريدون فقط العبور إلى حياة أفضل".