المحكمة العليا الأمريكية… بعيدا عن الانتخابات العراقية
منذ 35 دقيقة
بعيدا عن الانتخابات العراقية، المماثلة في ترتيبها ونتائجها، من يستأجر قاعة للاحتفال بعيد ميلاده، ويُزّينها، ويرتدي أجمل ما لديه إنتظارا للمدعوين فلا يحضر أحد، بعيدا عنها، ثمة حدث تم ركنه في زاوية لا تصل إليها أضواء أجهزة الإعلام الساطعة. ربما لأنه لا يتماشى مع السردية الشائعة عن الأحداث التي عاشها العالم في العقدين الأخيرين، جراء الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق. حيث نظرت المحكمة العليا الأمريكية، الأسبوع الماضي، وللمرة الأولى، في قضية مواقع الاعتقال السرية التابعة لوكالة المخابرات المركزية وكان أول شخص تم احتجازه فيها، هو زين العابدين محمد حسين المعروف بإسم أبو زبيدة. هذه الخطوة قد تساعد، إذا نجحت القضية، في منح الأمل للعراقيين الذين عاشوا الاعتقال والتعذيب في سجون الاحتلال وحكامه بالنيابة. فهل هي الخطوة الاولى في مراجعة تلك الأحداث من منظور يقترب من تحقيق العدالة الأنسانية، قانونيا؟
تنبع أهمية إنعقاد المحكمة من كونها إشارة ضوء، قد تستمر مستقبليا، لمعالجة قضايا إنتهاك حقوق الإنسان، بشكل قانوني، مهما كانت قوة الحكومات التي تمارسها، كسياسة خارجية أو داخلية، بحجة « الحفاظ على أمن الدولة». كما يؤكد إنعقاد المحكمة، وهو الأهم، بالنسبة إلى الأشخاص والشعوب التي تعاني من الانتهاكات، إن محاسبة الانتهاكات والجرائم لا تسقط بالتقادم. فقد مر على قضية أبو زبيدة، مثلا، حوالي العشرين عاما ، متزامنة مع مرور 20 عاما على أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، ومرور 20 عامًا على الغزو الأمريكي لأفغانستان، و 19 عامًا على إنشاء سجن خليج غوانتانامو، و 18 عامًا على غزو العراق، وبعد مرور 15 عامًا منذ أن تم الكشف عن قيام وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بإستخدام مواقع اعتقال سرية في أوروبا. دعم رفع الدعوى وتزويد المحامين بالوثائق مكتب الصحافة الأستقصائية، بلندن، بالتعاون مع «مشروع التسليم الاستثنائي». وفحوى القضية هي تفنيد إدعاء حكومة الولايات المتحدة بأن مواقع السجون، التي تعرض فيها عشرات الأشخاص للتعذيب في سنوات الحرب على الإرهاب، غير معروفة لديها ولا علاقة لها بها. وهو إدعاء مماثل لنفي قيادة الاحتلال الأمريكي للعراق قيامها بتعذيب المعتقلين العراقيين في « أبو غريب» وإصرارها على الرغم من معرفة الكل بذلك، بإنها أفعال «بضع تفاحات فاسدة» كذلك إدعاء الجيش الأمريكي الذي وصفته الأمم المتحدة رسمياً بالجهة المحتلة، أنه لا يعرف عدد الضحايا في بلد تحت أمرته لأنه «لا يقوم بتعدادهم».
أول الدلائل المفندة لادعاء الحكومة الأمريكية بعدم معرفتها بالسجون والتعذيب، كما يشير ملف محامي الدفاع، المكون من 53 صفحة من الوثائق، هو تصريح الرئيس جورج بوش، في 6 سبتمبر 2006: « بالإضافة إلى الإرهابيين المحتجزين في غوانتانامو، هناك عدد من قادة الإرهابيين، المشتبه بهم، تم احتجازهم واستجوابهم خارج الولايات المتحدة، في برنامج منفصل تديره وكالة الاستخبارات المركزية».
- اقتباس :
تحتل ذريعة المحافظة على الأمن، أولوية تكاد تكون مقدسة، لدى الدول الامبريالية، والحكومات القمعية، لتعمي الشعوب عن المطالبة بحقوقها
كان هذا أول اعتراف رسمي بأن وكالة المخابرات المركزية قامت بتشغيل برنامج يتم من خلاله احتجاز « الإرهابيين» المشتبه بهم الذين تم القبض عليهم في الخارج، بمعزل عن العالم الخارجي، في مواقع سرية، خارج الولايات المتحدة، تسمى «مواقع سوداء». في البداية، اقتصرت المواقع على بلدان محددة أهمها بولندا ورومانيا وليتوانيا وأفغانستان والمغرب.
ومع تزايد الوعي العام بوجودها، وقيام صحافيين مستقلين بنشر مقالات تكشف عن الطائرات المرتبطة بالبرنامج، وربطها بسجلات معتقلين أو مختطفين، كرس د. كروفتون بلاك، من منظمة « ريبريف» (الاعفاء)، وهي منظمة غير حكومية، جهده بالتعاون مع أستاذين آخرين لجمع وتحليل كل المعلومات المتاحة عن البرنامج. نُشرت قاعدة البيانات والمواقع، لأول مرة، في 2013، ثم واصل الثلاثة التعاون لتطوير تحليلهم للسجل العام ونشروا ملخصا تنفيذيا عام 2014. ليتم نشر النتائج التي توصلوا إليها، عام 2019، في دراسة مشتركة مكونة من 400 صفحة. من بين الوثائق التي قدمها الدفاع في قضية أبو زبيدة : وثائق حكومية أمريكية رُفعت عنها السرية، وسجلات رحلات نقل السجناء إلى وخارج المواقع السوداء، وسجلات هبوط الطائرات. حيث يُظهر السجل العام تاريخ وصول أبو زبيدة، مثلا، إلى الموقع الأسود البولندي ثم نقله الى خارج بولندا، والمواقع التي احتُجز فيها لاحقًا وهي غوانتانامو، المغرب، ليتوانيا وأفغانستان. كما يُظهر تقرير لمجلس الشيوخ الأمريكي أن استجوابات زبيدة تضمنت 83 حالة من الإيهام بالغرق، والحرمان من النوم وحبسه لمدة 11 يومًا في صندوق يشبه النعش. وأثناء احتجازه، فقد أبو زبيدة عينه اليسرى.
وأدى توفر المعلومات عن سلسلة التعاقدات الخاصة بالطائرات المشاركة في نقل المتهمين إلى رفع عدة دعاوي قضائية ضد مدير وكالة المخابرات المركزية جورج تينيت، وأصدر المدعي العام الإيطالي مذكرات توقيف بحق 22 عضوًا من فريق الترحيل السري التابع لوكالة المخابرات، وتكرر الشيء ذاته في إسبانيا. ونشرت صحيفة « الواشنطن بوست» في نوفمبر / تشرين الثاني عام 2005، تحقيقا عن الدول المتعاونة مع المخابرات الأمريكية، مقابل ملايين الدولارات. وبيّن تقرير لمنظمة « المجتمع المفتوح « المشاركة العالمية المذهلة في البرنامج حيث وصل عدد الحكومات المشاركة إلى 54، من بينها حكومات عربية، شاركت بطرق مختلفة. وكان للمثابرة على التوثيق وعدم اليأس نجاحه في ثلاث دعاوى قضائية في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
على الرغم من ذلك، تدّعي الحكومة الأمريكية بأن الدعوى الحالية، لاتستند الى حقائق بل مجرد تكهنات، وتصريحات غير رسمية من قبل مسؤولين سابقين وأجانب. والمفارقة أنها تقدمت بطلب الى المحكمة ينص على أن « أضرارا جسيمة ستلحق بالأمن القومي إذا تأكدت التكهنات العامة حول مكان وجود المواقع السوداء لوكالة المخابرات المركزية»!
تحتل ذريعة المحافظة على الأمن، أولوية تكاد تكون مقدسة، لدى الدول الامبريالية، والحكومات القمعية، لتعمي الشعوب عن المطالبة بحقوقها. وهي الأداة التي بررت بها الولايات المتحدة إحتلالها أفغانستان والعراق تحت مسمى» الحرب على الارهاب». فكانت النتيجة إزدهار صناعة الإرهاب في ظل حكومات تُخّرب وتنهب بالنيابة. لذلك قد لا تنجح الدعوى في تحقيق العدالة للمدعي إلا انه سيكون للحكم تداعيات كبيرة لتحديد حدود حق الحكومة الأمريكية في السرية. وهو ما يجب التمسك به، كأحد مستويات النضال، لتحقيق العدالة قانونيا.
كاتبة من العراق