المَقامي حسين الأعظمي يؤرخ أعلام المصارعة العراقيين
C
بقلم: صفوة فاهم كامل
المَقامي حسين الأعظمي يؤرخ أعلام المصارعة العراقيين
لا شكَّ أن الغالبية العظمى من المهتمّين والمتابعين للحركة الفنّية في العراق يميّزون الدكتور حسين الأعظمي، على أنه قارئ محترف للمقام العراقي ومعنيّاً بالتراث الغنائي الأصيل، وعلم من أعلام العراق في هذا المضمار وما زال، إلا أن الأكثر من كل هؤلاء وعامة الجمهور يجهلون أن الأعظمي كان مصارعاً متميّزاً في مضمار هذه اللعبة أيام صباه وفي شرخ شبابه ومدرّباً لها أيضاً، قبل أن يعتزلها عام 1975، ويترجّل من حلباتها في مدينته مدينة الأعظمية-موطن هذه اللعبة والقلب النابض لها-وسواها من الأندية الرياضية في بغداد، تلك الحلبات التي شهدت نزالاته وبطولاته مع أقرانه من المصارعين، ليحترف بعدها الموسيقى التراثية ويعتلي مسارح الغناء المقامي.
إن نظرة خاطفة لبنية الأستاذ حسين الجسدية العارمة وهو في هذا العمر تستطيع أن تجزم إن هذا الرجل قد مارس لعبة المصارعة العنيفة وأتقن فنونها في مرحلةِ ما من حياته ما جعلته يعتز بها ويحنُّ إليها إلى اليوم.
الآن وبعد نصف قرن من اعتزاله هذه اللعبة وابتعاده كلياً عنها إلا أن الأعظمي ظلَّ في أحاديثه الخاصة مع أصدقاء ومحبّيه يتوق إلى هذه اللعبة ويستذكرها دوماً ويستذكر معها أسماء زملاءه ومدرّبيه وغرماءه من اللاعبين وما أنجزه من بطولات خلالها، حتى أن هذا الإحساس والتعلق بتلك الحقبة من حياته جعلته يتخذ قراراً جريئاً بتوثيق وأرشفة تاريخ هذه اللعبة العريقة كجزء مهم لا يتجزّأ من تاريخ الرياضة في العراق، وما ثمرة هذا الإحساس والعشق إلا وجسّدها في الكتاب الذي أنجزه مؤخراً وصدر عن دار البيروني للنشر والتوزيع في عمّان، واسماه (موسوعة المصارعة العراقية) وهو المؤلف الثاني عشر له.
ومن لطائف صديقي وأخي أبو غسان، أن أهداني نسخة منه مشكوراً بُعيد صدوره، وبعد أن قرأت صفحاته وتمعّنت بصوره على مدى الأيام الماضية، خرجت بانطباع إيجابي جازم بإن هذا الكتاب لا بدَّ أن يقرأه ويحتفظ به كل عاشق وهاوي ومحترف لهذه الرياضة بنوعيها الحرة والرومانية، وخاصةِ الجيل الحالي.
فكرة تأليف هذا الكتاب جاءت حينما أسّسَ عدد من رواد هذه اللعبة من مصارعين وحكّام وإداريين-والأعظمي من بينهم- لجنة أسموها (لجنة خدّام المصارعة العراقية)، هدفها الرئيس استحضار أسماء من تولى رئاسة الاتحاد العراقي المركزي للمصارعة الحرة والرومانية وتاريخهم والفترات الزمنية التي تولوا فيها إدارة الاتحاد نزولاً لروادها وأبطالها، مما جعل الأعظمي يحث زملاءه في هذه اللعبة على ضرورة أرشفة وتوثيق تاريخ هذه اللعبة من خلال رسائل ومناشدات مطوّلة ومتعددة بعثها لهم وتلقى ردودهم عليها، فتمخضت عن ذلك تأسيس لجنة خدّام المصارعة، وهي لجنة خدمية تطوّعيّة، كان لها الأثر البالغ في مسعاه وما حققه من إنجازات ناجحة بلورت أفكاره ورؤيته. ولاحقاً تولّدت لدى الأعظمي، الشجاعة والعزم في لملمة نتائج هذه اللجنة والشروع بكتابة موسعه شاملة للمصارعة العراقية بجزئين غطّت تاريخ هذه اللعبة على مدى قرن كامل من الزمن وهذا ما تطرّق إليه بشكل مسهب في الفصل الأول من الكتاب الذي تألف من خمسة فصول توزعت على نحو بابين، شقّت صفحاتها مئات الصور التاريخية، لتعزّز من مضامين وأحداث وقعت في ذلك الزمن حتى يُخيّل للقارئ إن الكتاب يكاد ينطق بالذكريات والعبر في أيامها الجميلة العبقة.
أما الفصل الثاني من الكتاب فخصّصه المؤلف لِسيّر عدد من أبطال العراق في هذه اللعبة ونشأتهم وتطوّرهم وفاءاً لهم ولمسيرتهم الرياضية، وأغلبهم ممن برزوا خلال النصف الأول من القرن الماضي وقبل تأسيس اتحاد المصارعة العراقي عام 1950، ومن أبرز مصارعي ذلك الجيل وأنشطهم والمعروف لدى القاصي والداني من العراقيين ممن عاصروا ذلك الجيل والأجيال اللاحقة وظلَّ اسمه حاضراً في أذهان الجميع هو المصارع الكبير عباس الديك، والبقية الباقية معه ممن حققوا إنجازات عظيمة رغم الإمكانيات والقدرات المحدودة نسبياً في ذلك الزمن.
وتتطرق الأعظمي في أخر ذلك الفصل إلى رياضة الزورخانة التاريخية التي تميّز بها العراق عن سواه من بين الأمم حتى أمست لعبة تراثية تُقدّم عروضها في المناسبات الرسمية والأمسيات التراثية من باب الاستذكار والاعتزاز بهذه الرياضة وإبراز جماليتها وقوتها البدنية لممارسيها.
الفصل الثالث من الكتاب أفرده الكاتب للجيل الثاني من رواد هذه اللعبة. هم شخصيات رياضية مهمّة مارست لعبة المصارعة والتحكيم ثمَّ العمل الإداري فيها وكان تأثيرهم فاعل تجاهها من حيث الإنجازات والقرارات في رفع شأن اللعبة على المستوى المحلي والدولي. ومن أبرز هؤلاء الشخصيات من الذين نعرفهم في الحياة غير الرياضية ونلتقيهم في المناسبات الاجتماعية والعامة هو السيد أمّوري إسماعيل حقي (أطال الله في عمره)، الرياضي والحزبي والسياسي المعروف والذي شغل مناصب إدارية مهمّة وكبيرة في المجال الرياضي والتعليمي في العراق ومناصب أسيوية ودولية أخرى وأفنى سني عمره من أجل هذه اللعبة.
ثمَّ ينتقل المؤلف إلى الباب الثاني من كتابه ليخصص الفصل الأول منه ويسرد فيه أبرز مصارعي عقد الستينيات من القرن الماضي وتاريخهم الناصع وعددهم سبعة عشر مصارعاً، هم امتداد لجيل الخمسينيات وورثتهم. بعضهم حقق إنجازات مهمة ورفعوا اسم وعلم العراق في حلبات دول أجنبية عديدة إضافة إلى البطولات التي حققوها في أنديتهم المحلية، ومنهم من اتجه فيما بعد إلى التحكيم بعد اعتزالهم من باب الوفاء لأبناء هذه اللعبة وخدمتهم والتعلّق بها والتأثير الذي تركته في نفوسهم خلال حياتهم.
فترة السبعينيات من القرن الماضي أخذت حيّزاً واسعاً في الفصل الثاني من الباب الثاني للكتاب وهي الفترة الذهبية لهذه اللعبة والأبرز على الصعيد المحلي والدولي حيث تأهّلت ملاعب جديدة لهذه الرياضة وتوفرت الإمكانيات المادية بشكل كبير وتطوّرت طرق التدريب وتبادل الخبرات والدورات مع دول العالم ومشاركة فرق عديدة بدورات وبطولات عربية وعالمية وبروز مصارعين أكفّاء هم بمجملهم نتاج خبرات وكفاءة من سبقهم من ذلك الجيل الذين بدورهم أصبحوا مدرّبين للجيل القادم من محبي هذه اللعبة.
وما لفت انتباهي خلال قراءتي لصفحات الكتاب مروراً بهذا الأسماء اللامعة في عالم المصارعة العراقية، أن الدكتور حسين الأعظمي صاحب فكرة وتحرير هذه الموسوعة وجمع صورها، لم يدرج اسمه مع عديد المصارعين المذكورين، على الرغم من تاريخه الحافل وإنجازاته في هذا الحقل وحصوله على بطولة العراق لخمسة أعوام متتالية كان قد حقّقها خلال النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، ربما أراد في ذلك النأي عن نفسه بأن لا يحشر اسمه مع هذه القامات العملاقة من زملاء وأساتذة الأمس والترفّع عن ذلك تاركاً شأنها للأجيال القادمة ومحبّيه، لتؤرخ تاريخه وسيرته كمصارع له بصمة في هذه الرياضية إضافة إلى تاريخه العريق في الفن، كسفير دائم للمقام العراقي لبلدان المعمورة.
وبدوري ومن خلال هذه السطور المتواضعة أبارك للأستاذ حسين الأعظمي، وليده الجديد (موسوعة المصارعة العراقية) مشفوعة بالأمنيات الخالصة نحو إحراز مزيد من الإنجازات الثقافية والفنّية على صعيده الشخصي ولصالح بلده العراق
ومن الله كلَّ التوفيق.