من هو الحاكم الفعلي في العراق؟
منذ 3 ساعات
بغض النظر عن أن القرار العراقي باتت صناعته حكرا لطهران وواشنطن منذ عام 2003 وحتى اليوم، لكن مسألة التعامل مع الهويات الفرعية، والعلاقة بين أبناء الشعب الواحد تُركت بيد ثلاثة عناصر يتسيدون المشهد الداخلي وهم: سياسي طائفي فاسد وخائن، رجل دين باع قيم السماء، وأعلن الولاء للسلطة، وزعيم قبلي تخلى عن منظومة الأخلاق العشائرية، وبات يستثمر في النزاعات من أجل المال وكسب رضا الميليشيات الطائفية.
ولو أمعنا النظر في الحوادث التي حصلت الأسبوع الماضي الثلاثاء 26 أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم في محافظة ديالى العراقية، لوجدنا أن العناصر المذكورة كانت هي صانع الحدث، وهي من خططت ونفذت وأسندت وأخرجت المشهد، كما رآه الناس. فقد قيل إن «تنظيم الدولة» شن هجوما على إحدى القرى، وقتل عدداً من أبنائها، وهذا الفعل تتحمله السلطة وأجهزتها الأمنية والعسكرية والشرطية، التي ما فتئت تتغنى بالانتصارات على هذا التنظيم.. وهي وحدها التي يجب أن تحفظ حقوق ذوي الذين قتلوا، لكن الذي حصل هو أن العشيرة التي تسكن القرية لم يوجهوا اللوم للسلطات، بل قاموا بعملية انتقام من قرية أخرى مجاورة، لا ذنب لهم سوى أنهم يتبعون مذهبا آخر، فتم تحشيد أكثر من 3500 رجل هاجموا جيرانهم من أربعة محاور، وكانوا مدججين بمختلف أنواع الأسلحة، تحملهم سيارات دفع رباعي، كانت عليها شعار ميليشيات الحشد الشعبي، التي قيل إنها أصبحت مؤسسة بإمرة القائد العام للقوات المسلحة وترافقهم الجرافات.
- اقتباس :
في الدول الحقيقية يكون مكان رئيس الوزراء وسط السلطة السياسية، ودوره مسك خيوط اللعبة السياسية بيديه، لحفظ التوازن وحماية المواطنين
وفي حصيلة أولية لنتائج الهجوم كانت هنالك إعدامات ميدانية، وتجريف للعديد من البساتين ونهب للمواشي، وحرق المركز الصحي الخاص بالقرية، وكذلك الجامع. كما تم حرق العديد من السيارات الشخصية والمكائن الزراعية، التي تعود إلى الفلاحين في تلك القرية، ولأن المهاجمين أغلبهم ينتمون إلى ميليشيات الحشد الشعبي، لذلك نرى أن طبيعة الهجوم كانت فيه ملامح عسكرية، أكثر منها مجرد نزاعات عشائرية، لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو، لماذا يتم الانتقام من مواطنين أبرياء بدعوى الرد على تنظيم الدولة؟
إن التحالف الذي بات يحكم المجتمع، ويرتب العلاقات فيه، والمتكون من السياسي الطائفي ورجل الدين الدجال والزعيم القبلي المنافق، حاولوا إنشاء منظومة علاقات اجتماعية قائمة على أساس تقسيم المجتمع إلى معسكرين: معسكر يزيد ومعسكر الحسين.. واختصوا أتباع مذهب معين بأنهم من أتباع يزيد، والآخر من أتباع الحسين، وبالتالي حاولوا تثبيت معادلة قائمة على أن كل من يُقتل من هذا الطرف يتحمّل دمه الطرف الآخر، بغض النظر عن من قام بالفعل. وبما أنهم رسّخوا في أذهان بعض العامة، أن تنظيم الدولة محسوب على مذهب معين، فإن من حقهم الانتقام من طرف مجتمعي محدد، حتى إن كان هذا الطرف بريئا وليست له علاقة بالتنظيم، بمعنى أن هذا التحالف الثلاثي يريد إظهار أن سلم وأمن الطائفة مرتبط ارتباطا جذريا بهم، والهدف من وراء ذلك هو استمرارية مصالح هؤلاء الثلاثة، فالسلم والأمن للمجتمع ككل ليس في أجنداتهم وليسوا معنيين به إطلاقا. كما أنهم لا يؤمنون إطلاقا بالدولة، ويثقفون أبناءهم من منتسبي القوات المسلحة، وقوى الأمن الداخلي بأنهم قوات للميليشيا وللطائفة وللمذهب وللقبيلة. لذلك نرى هؤلاء ينحازون مباشرة للهوية الصغرى، ويستخدمون كل موارد الأجهزة العسكرية والأمنية التي ينتسبون إليها في سبيل نصرة هذه التسميات. وقد برز هذا في الكثير من الأحداث، وآخرها الحدث الأخير في ديالى، حيث لم تُحرك ساكنا قوات الجيش الموجودة في المنطقة، ولا قوات الشرطة، على الرغم من نداءات المواطنين طلبا للحماية. في حين وضعت ميليشيات ما يسمى «مؤسسة الحشد الشعبي» كل مواردها المادية والمعنوية في خدمة الذين هاجموا القرية. وبذلك أصبح السياسي الطائفي الفاسد ورجل الدين الدجال وزعيم القبيلة المنافق هم القاضي والجلاد والدولة والقانون والدستور، وكل الرئاسات الثلاث، وقانونهم وحده هو الذي أدار الحدث ورسم المشهد.
يقينا بعد كل هذه الجريمة المكتملة الأركان، التي حدثت أمام أعين القوى الصلبة للدولة، التي ينبغي أن يكون دورها هو حماية حقوق المواطنين والدفاع عنهم، سيكون من السذاجة بمكان السؤال عن دور الدولة، ودور رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، الذي يوصف واجبه على أنه حماية الدستور. ففي الدول الحقيقية وليست الدول الفاشلة، يكون مكان رئيس الوزراء في وسط السلطة السياسية، ودوره هو مسك كل خيوط اللعبة السياسية بيديه، لحفظ التوازن وحماية المواطنين. أما في العراق فمنذ عام 2005 وحتى اليوم بات مكان رئيس الوزراء على الجانب وليس في المركز.. لماذا؟ لأن هذا المنصب لم يعد للعراق بكل خريطته الجغرافية، بل بات مرتهنا باسم وخريطة طائفة، وهذا يوجب عليه أن يجلس بين حلفائه من المذهب نفسه، وأن يدافع عنهم ويحقق لهم حقوق فوق العادة كي يستمر في المنصب، لذلك وجدنا ردة فعل رئيس الوزراء في تغريدة له محصورة بإدانة ما قالوا إنه هجوم من «تنظيم الدولة» لكن لا توجد أي إشارة إلى ما قام به أكثر من 3500 رجل، من قتل وسلب وتهجير وتجريف لسكان قرية آمنة. وعلى المنوال نفسه كانت ردة فعل رئيس الجمهورية وزعماء الكتل السياسية، وكأن الحدث لم يقع أصلا.
إذن كيف يمكن أن نعيد يقين الناس بأن الدولة دولتهم، وأنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، وأن أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية تدافع عنهم، بغض النظر عن هوياتهم الفرعية؟ كيف يمكن أن نجعلهم يعتصمون بيقين ثابت بأن أبناءهم لهم مستقبل في هذا الوطن، وليس في مكان آخر من هذا العالم؟
لقد تولى زمن كانت فيه السياسة فعلا اجتماعيا محصورا برجال دولة من طراز خاص، لهم مشاريع للتغيير، ثورية أم إصلاحية حسب ظروف البلد. كما ذهبت أدراج الرياح تلك المقولة التي تركز على أن إدارة الحكم فن ومهارة. فالصورة القاتمة في العراق هي أبرز دليل على هذا القول بعد أن أصبح الغوغاء والطائفيون هم الحكام في البلد. كما غادرتنا حمية شيخ القبيلة الذي كان يقود الناس إلى مسارات الخير والفضيلة، ويؤلف بين قلوب المجتمع من خلال الدعوة لنبذ الاحقاد والضغائن. أما رجال الدين فقد مال بعضهم إلى التفيؤ بظلال السلطة والتسكع في قصورها والتمسح بكراسيها.
في السياسة هنالك خطوتان رئيسيتان: أولا على السياسي التعرف على المشكلة ومعرفة الموقف الذي يواجهه. وثانيا عليه تنفيذ إجراءات لتحسين الأمور، أي التبصر والعمل، لكن يبدو أن رئيس الوزراء بعث وفدا أمنيا إلى مكان الحادث يتألف من مستشار الأمن القومي، ورئيس أركان الجيش، ونائب قائد العمليات المشتركة، ورئيس تحالف الفتح، الذي يتزعم ميليشيا معروفة. فوجدنا أن صوت زعيم الميليشيا هو الذي يحدد ما الإجراءات المقبلة بصيغة التهديد والوعيد. إذن كيف يمكن إحقاق الحق؟
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية