18 عاما وما زال ساسة العراق يبحثون عن ضمائرهم
منذ ساعتين
مرّ أسبوعان على جريمة المقدادية في محافظة ديالى، التي حصلت في 26 أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، وما زالت الأحداث المأساوية تتكشف. عشرات المقاطع المصورة تنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي، تبين وبوضوح تام أن لا قيمة للإنسان في العراق، إلى حد أنها تلطخ بالعار جبين كل من يتحمل المسؤولية في هذا البلد.
كما تنزع الشرعية الاجتماعية عن الزعامات الوجاهية الصامتة، من رجال دين ومراجع وحوزة وزعماء قبائل وشيوخ عشائر، وتضع ألف علامة استفهام على دور الجيش والشرطة، وكل الأجهزة الأمنية. فمن يمتلك الشجاعة الأدبية بعد هذه الجريمة المروعة، ليقف متحدثا بإحقاق الحق وإزهاق الباطل، بينما الباطل من أمامه ومن خلفه وعلى يمينه وشماله؟ أي رجل دين يستطيع أن يعيد اليقين لدى الناس بمنبره الذي يقف عليه أسبوعيا ليعظهم، وهو لم يستطع أن يتفوه بكلمة حق واحدة في حضرة ميليشيات باطلة؟ أين الكربلائي الناطق باسم المرجعية الذي ما فتئ يتحدث عن الفساد والسياسيين الفاسدين المجرمين، لكن بصيغة المبني للمجهول؟ لماذا صمت الصميدعي وخالد الملا اللذين اجتهدا سنين كي يسوّقوا أصحاب السلطة؟ وهل نكث محمد الحلبوسي بقسمه، حين هدد بكسر ظهر كل من يعتدي على ناسه ومحافظاته، كما يسميها؟ من يدل الثكالى على حامي الدستور الذي لاذ بالصمت أمام الجريمة؟ بل أين المدعي العام والسلطات القضائية في هذا العراق الجديد الديمقراطي، الذي يسكن العصور الوسطى؟
أما رئيس الوزراء الحالي والناشط المدني السابق، والمدافع من بريطانيا وأمريكا عن حقوق الإنسان العراقي قبل الاحتلال، والصحافي ابن السلطة الرابعة لاحقا، فهناك الكثير من العراقيين تمنوا أن تكون لديه العزيمة، فيهب لنصرة أهل قرى نهر الإمام والميثاق في ديالى، ويحميهم بشرف المسؤولية التي يتولاها، كما هبّ بعد عام 2003 فجمع أرشيف الدولة العراقية وسلّمه للأمريكيين. يقينا لقد رآه سكان هذه القرى على مدى أكثر من عام وهو يُنمّي شخصيته كي يصبح محبوبا ومختلفا عن الآخرين.. يرسم ابتسامة صامتة على وجهه من أجل اكتساب الهيبة والجلال.. يمارس دور محامي الشرفاء، يحتضن الأطفال ويتحدث إلى النساء حين يتجول في شوارع بغداد، فتصوروا أنه سيكون المنقذ من الميليشيات، لكن تبين لهم أن كل هذه الفعاليات مجرد مساحيق تجميل وليست صفات في جيناته، لذلك لم يتحرك الغضب الشريف في ضميره على طفل يُقتل عمره سنتان، وهو نائم، ولا رد فعل مقدس منه على رجل عمره 75 عاما، يُقتل بدم بارد وهو جالس على كرسيه، وليس في يده سوى عصا يتوكأ عليها من إعاقة. كما لم تتحرك النخوة لديه وهو القائد العام للقوات المسلحة، حين يرى الجيش والشرطة يتحولون من حُماة أمن وسلم مجتمعي إلى مجرد ناقلين، يحملون النساء بسياراتهم العسكرية إلى خارج القرى كي يفرغوها من السكان، نزولا عند أوامر الميليشيات. وكأنهم كانوا يغيثون سكاناً أصابتهم كارثة طبيعية كالزلازل والأمطار، وليس قتلا وحرقا وتهجيرا بيد ميليشيات طائفية، كان الواجب يقتضي منهم التصدي لهم وردعهم.
- اقتباس :
- وحدها الوطنية والهيبة والمنهجية والمهارة هي التي تصنع الشخصيات البارزة، فتفوز بإعجاب الناس وولائهم
لقد نسي رئيس الوزراء، أن الحكم هيبة وإعلام، فمال للإعلام كي يزوّق نفسه ويُلمّع خطواته وترك الهيبة. لقد أخذته نزوة العلاقات الدولية، والمديح المدفوع الثمن، فكان بعيدا جدا عن العمق، وفشل في أن يقنع التاريخ بأنه رجل آخر. فالتزويق والتلميع لن يصنعا بطولة في الدول المنكوبة، ولن يستدرا إعجاب الناس وهتافهم للزعيم السياسي.. وحدها الوطنية والهيبة والمنهجية والمهارة هي التي تصنع الشخصيات البارزة، فتفوز بأعجاب الناس وولائهم. أما أن يتجاهل كل ما تقوم به الميليشيات والجماعات المسلحة، وأن لا يقول أي شيء في حدث جلل وجريمة كبرى كالتي حدثت في ديالى، فكيف سيرتب دفاعه إذا لم يذكر شيئا أو يفعل فعلا مسؤولا، يعتمد عليه عند استجواب ضميره، من قبل ضمائر العراقيين وألسنتهم وعقولهم وقلوبهم؟ فإغراءات القبول الخارجي والتلميع الدولي والإقليمي، كلها تنتهي حين يتعرض المسؤول الأول إلى العيب أمام شعبه، بسبب علاقته الفضفاضة بالحقيقة، وقصور موهبته وعزيمته وإصراره على الحصول على الدقة في توصيف الواقع وما حدث. عندها تنفجر كل البهرجة وتبتعد الأضواء عنه، مهما حاول العامل الخارجي إضفاء صفة البطولة عليه، لأن تهمة عدم الكفاءة وليس غيرها، هي التي تجعل الناس يتعبون من المسؤول ويشيحون بوجوههم عنه. قد يعيش في خياله ويتصور أن ما يواجهه به الناس مجرد حقائق باردة لا تشكل قضايا كبرى ضده، لكنه سقط في أعينهم ولم يعودوا يرون ما يستحقه رئيس الوزراء، غير أن يحمل رتبة جنرال في الفوضى، فتركوه يتخبط بها.
قد يكون تصرفه في عدم الحديث والفعل في أحداث المقدادية، وسيلة للتهرب من الكوارث، وذات هدف يتمحور حول التركيز على ما يسميها “الإيجابيات” التي حصلت في عهده، كي يظهر بطولته على المسرح خلال العام وبعض العام، الذي استوزر فيه، ويعاد تكليفه لأربع سنوات مقبلة. لكن السؤال ذا الحدين، هو أين هي الإيجابيات بعد أن فعل هو وشركاؤه كل شرور الشياطين؟ قال إنه أنهى تنظيم الدولة، وجلب قادته حتى من كان منهم خارج البلاد في عمليات بطولية، كما يدعي، لكننا نرى التنظيم يطل برأسه في أكثر من مكان، وينفذ هجمات تعجز أجهزة الدولة عن حماية المواطنين منها… يقول إنه سيطر على السلاح المنفلت وهذه أحداث المقدادية تثبت عكس ذلك.. يدعي أنه يلاحق الفاسدين وقبل أيام قليلة قالوا إنهم ألقوا القبض على فاسد يبتز مديري الوزارات العراقية، لكن الفاسد هذا ظهر على شاشات التلفزيون مرتديا بدلة صفراء، ويحمل لافتة صغيرة كتب عليها اسمه، لكن كانت على محياه ابتسامة استهزاء، وفي عينيه ثقة عمياء تشي بأنها مجرد مسرحية، أو أنه واثق من إغلاق الملف بعد نهاية فترة الاستثمار السياسي فيه.
إذن نحن أمام رئيس وزراء يبدو أنه يتصور بأن الجمهور لا يركز على قدرته على التضليل، وافتقاره إلى الآليات الصحيحة في الحكم، ومحاولاته الإفلات من نظرية الفوضى في القيادة، من خلال تشكيل لجان وكلام دون أفعال. فهل ينتظر ذوو الدماء التي هُدرت، والدور التي هُدمت، والمزارع التي أُحرقت، والعوائل التي هُجرت وشُردت، نتائج لجان شكّلها ستكون على شاكلة سابقاتها منذ أكثر من عقد ونصف العقد مضى على تشكيلها، لكن نتائجها لم تتبين حتى اللحظة؟ إن أي سياسي أو زعيم من الوجاهات الاجتماعية العراقية، شاهد الفيديو المصور لرجل معلق من قدميه، وجمهرة شباب حوله يقتلونه ببرودة دم، ولم يجد ضميره في تلك اللحظة، فيهب ضد الباطل فهو بلا ضمير. والفيديو دليل واضح على أن السلطة تأخذ شعب العراق عن وعي وعنوة إلى سيناريوهات كارثية أخرى.
*كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية