ستالين والأممية الشيوعية (الكومنترن)
د. جابر أبي جابر
ستالين والأممية الشيوعية (الكومنترن)
لم يكن لينين وتروتسكي وبقية الزعماء البلاشفة على يقين من أن روسيا السوفيتية قادرة على البقاء وحدها، إذ كانوا يتوقعون أن تطلق ثورة أكتوبر الشرارة الأولى، التي ستشعل نيران الثورات في الغرب الرأسمالي. وقد ذهب هؤلاء آنذاك إلى أنه لا يمكن بناء الاشتراكية في بلد واحد حيث يتطلب أمر كهذا إمكانيات مشتركة لكافة البلدان الرأسمالية الرئيسية. وكان لينين على اعتقاد راسخ بأن البلاشفة، رغم حماسهم الشديد، لن يقدروا وحدهم على بناء مجتمع شيوعي في روسيا إن لم تأت شغيلة البلدان الصناعية المتطورة لمساعدتهم. وقد أدرك زعيم البلاشفة أن تجربته الجزئية محكوم عليها بالفشل إن لم تنضم إلى روسيا الزراعية المتخلفة دولة صناعية واحدة على الأقل. وبهذا الصدد كان يعلق آمالاً كبيرة على الثورة العاجلة في ألمانيا.
كان لينين يفكر منذ عدة سنوات بضرورة إنشاء منظمة جديدة للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية عوضاً عن الأممية الثانية التي تبعثرت خلال الحرب العالمية الأولى. وقد شغلته الثورة والحرب الأهلية عن تحقيق ذلك. ولكن عندما أصبح معلوماً أن " الانتهازيين والتحريفيين" يستعدون لبعث نشاط الأممية الثانية اضطر إلى الإسراع بتأسيس الأممية الثالثة.
وفي الثاني من آذار/مارس عام 1919 افتتح بموسكو المؤتمر الأول(التأسيسي) للأحزاب الشيوعية والاشتراكية الديمقراطية اليسارية بمشاركة 52 مندوباً عن 35 حزباً وتنظيماً سياسياً من 21 بلداً. واتخذ المؤتمر بعض الطروحات حول الديمقراطية البرجوازية ودكتاتورية البروليتاريا. وقد حددت هذه الوثائق الأساسية هدف المنظمة الجديدة في إقامة دكتاتورية البروليتاريا على شكل سلطة سوفيتات نواب الشغيلة. واعتُبر الصراع الطبقي الوسيلة الرئيسية لبلوغ هذه المهمة بما في ذلك عن طريق الانتفاضة المسلحة. كما تبنى المؤتمر المركزية الديمقراطية أساساً لبنية الأممية الشيوعية (الكومنترن) التنظيمية. وأشير بوضوح في قرارات المؤتمر إلى ضرورة محاربة الأممية الثانية باعتبارها منظمة تحريفيين ووجوب انسلاخ العناصر الثورية عنها. وتمخضت أعمال المؤتمر عن إنشاء لجنة تنفيذية معظم أعضائها من البلاشفة وترأسها غريغوري زينوفييف، الذي دعا الأحزاب الشيوعية إلى التوحد تحت راية هذه المنظمة لانتهاج سياسة مشتركة من أجل تحقيق الثورة العالمية ودعم البلاشفة في روسيا.
وفي ختام المؤتمر جرى التأكيد على ضرورة العمل من أجل تكاتف الطليعة البروليتارية في أحزاب شيوعية مقدامة إلى جانب تطوير ونشر أفكار الاشتراكية الثورية الأممية خلافاً لاشتراكية الأممية الثانية الإصلاحية، التي أقدم البلاشفة على القطيعة معها من جراء تباين المواقف بخصوص الحرب العالمية الأولى وثورة أكتوبر. وقد ضم هذه التنظيم أحزاباً شيوعية من مختلف البلدان شكّلت جميعها "حزباً شيوعياً عالمياً" استمر نشاطه لغاية عام 1943.
أدى تأسيس الأممية الشيوعية إلى استفحال الصراع داخل الاحزاب الاشتراكية االديمقراطية في أوروبا وأمريكا. وقد أثار ذلك انشقاقات في بعض منها. وانضمت الأجزاء المنسلخة إلى الأحزاب الشيوعية المحلية.
وفي مؤتمره الثاني المنعقد ببتروغراد في 19 تموز/يوليو عام 1920 وضع الكومنترن 21 شرطاً لعضويته من أبرزها التزام الأحزاب الشيوعية العالمية بفك أي ارتباط لها مع الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية وإعادة تنظيمها استناداً إلى المبادئ اللينينية وتنقيتها من الشوائب الفكرية البرجوازية. كما اشترك المؤتمر بأن يكون الحزب طليعة الطبقة العاملة ومنفذ رسالتها التاريخية. وفضلاً عن ذلك ألزمت قرارات المؤتمر الأحزاب في أوروبا بصياغة سياساتها وبرامجها على نحو ينسجم مع النظام الداخلي للحزب البلشفي. وأرغمت منظمة الكومنترن جميع الأحزاب الشيوعية المنضوية تحت لوائها بانتهاج البلشفية كمرجعية فكرية وتنظيمية وتطهير صفوفها من العناصر المتخاذلة والنزعات التوفيقية. ومن أجل الإعداد للثورات العالمية أوصى الكومنترن بتأليف تشكيلات عسكرية داخل الأحزاب للإطاحة بالأنظمة الرأسمالية.
كتب لينين مقالته الشهيرة" مرض الطفولة اليسارية في الشيوعية" خصيصاً بمناسبة افتتاح الكونغرس الثاني للكومنترن حيث أشار على شركاء الرأي في الأحزاب الشيوعية الشقيقة إلى التكتيك الضروري، الذي ينبغي عليهم اتباعه، وقام باستنتاج مفاده أن البلشفية هي النموذج الملائم للجميع. وكما هو معروف نشب في منتصف العشرينات بالاتحاد السوفيتي صراع عنيف ضد التروتسكية. وتحت تأثير قيادة الكومنترن كان يجري طرد أنصار تروتسكي من الأحزاب الشيوعية الأجنبية. كما أن العلاقات مع الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية اتسمت بتوتر بالغ. وكان ستالين يعتبر الاشتراكيين الديمقراطيين العدو الرئيسي للشيوعية.
ونظراً لاعتقاد البلاشفة بأن الثورة في روسيا لن تثبت على أقدامها طويلاً إذا لم تمتد إلى الخارج، فقد قرروا إشعال نيران الثورة العالمية. وجرت المحاولات الأولى لتصدير الثورة في عام 1919 إلى فنلندا وجمهوريات البلطيق . كما بذلت موسكو جهوداً كبيرة لدعم الانتفاضات الثورية بألمانيا والمجر ومد المتمردين بالمال والعملاء. وبعد إخفاق الانتفاضة في ألمانيا عام 1923 وفشل إضراب عمال المناجم في بريطانيا(1926-1927) وتضاؤل دور الشيوعيين بالصين في عام 1927 باتت السلطات السوفيتية تعير اهتماماً بالغاً إلى تعزيز العلاقات الدولية.
ومن جهة أخرى فقد تبنت موسكو تكتيكاً جديداً تجلى في إنشاء شبكة من الأحزاب الشيوعية عبر اللجوء إلى شق صفوف الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، وفرز العناصر الأكثر راديكالية لتأسيس أحزاب شيوعية منها. ومن جهة أخرى كان الكرملين في الوقت نفسه يعقد مباحثات مع حكومات الدول الأجنبية للتوصل إلى الاعتراف الدبلوماسي، وإقامة علاقات اقتصادية جيدة. وقد تكللت الجهود الرامية إلى تحقيق الاعتراف الدبلوماسي بنجاح باهر مقارنة مع المحاولات الحثيثة لتصدير الثورة. وقد انخذت الأممية الشيوعية قراراً بإدانة المعارضة ودعم أغلبية اللجنة المركزية دون الإلمام العميق بجوهر النقاشات الجارية في موسكو ودون الاستماع إلى ممثلي المعارضة التي ترأسها تروتسكي.
وقد جرى ذلك استناداً للسيناريو الذي وضعته مجموعة ستالين وزينوفييف وكامنيف بهدف تشويه سمعة خصمهم في الصراع على السلطة ثم إبعاده عن الحلبة السياسية. وفي هذا السياق سمّي النهج اليساري، الذي اتبعته المعارضة، بالنهج اليميني الانتهازي لكي يتم تصوير التروتسكية باعتبارها بوقاً لأعداء الكومنترن. وقد نجم عن تفاقم الصراع الداخلي في الحزب نشوء وضع من التعصب الشديد وعدم التسامح إزاء أعمال ومواقف المعارضة في الأحزاب الشيوعية الأخرى.
وقد سعى الكومنترن إلى إيجاد السبل لفرض أساليبه وبرنامجه خارج الاتحاد السوفيتي. واتسمت الأحزاب الشيوعية الأجنبية بمركزبة مفرطة وانضباط محكم على غرار النموذج البلشفي حيث كانت مطيعة ومسؤولة فقط أمام مقر الأممية الشيوعية بموسكو.
وخلال المؤتمر السادس للكومنترن المنعقد في تموز/يوليو-آب/أغسطس عام 1928 جرى التركيز على تأمين وحدة الحركة العمالية عن طريق محاربة التكتلات والانشقاقات والعدول عن التعاون مع الاشتراكيين الديمقراطيين الذين أصبحوا، حسب تعبير ستالين، "الأعداء الرئيسيين للطبقة العاملة". وضمن المهام الأخرى نصت قرارات المؤتمر على تطهير الأحزاب الشيوعية من المترددين واعتبار الحركات القومية ضمن حملة الإيديولوجيا المعادية للثورة.
وفي الاجتماع الموسع، الذي عقدته اللجنة التنفيذية للكومنترن في نيسان/أبريل عام 1929، اعتبرت الاشتراكية الديمقراطية "فاشية اشتراكية" وتم توجيه كافة مؤسسات الكومنترن نحو صياغة صورة إيجابية للاتحاد السوفيتي لدى الرأي العام لبلدانهم بدلاً من تأجيج الثورة العالمية.
وكان "قسم العلاقات الخارجية" من أهم أقسام الكومنترن حيث لعب دوراً محورياً في هذه المنظمة. فعن طريقه كانت تجري كافة اتصالات الأشخاص، الذين ترسلهم موسكو بصفة مبعوثين سياسيين إلى الأحزاب الشيوعية في الخارج. وكان هذا القسم يزود هؤلاء بجوازات سفر مزورة و"عناوين مضمونة"، ويقوم بتمويل نشاطات الشيوعيين في أوروبا وأمريكا الشمالية. وكان على العموم همزة الوصل بين قيادة الكومنترن في موسكو والعملاء السياسيين الناشطين في البلدان الأجنبية.
وتولى القسم المذكور الإشراف على عمل هام جداً وهو تنسيق نشاط الأممية الثالثة المتعلق بالتعليم والدعاية على نطاق دولي حيث وُضعت تحت تصرفه المدارس التابعة للكومنترن والواقعة في موسكو وضواحيها. وهناك كان الطلاب يدرسون، بالإضافة إلى القضايا النظرية، كافة جوانب الحرب الأهلية بدءاً من الدعاية وانتهاء بإجادة استخدام الرشاش. أما الطلاب المتفوقون فكانوا يتلقون تدريباتهم في إدارة استخبارات الأركان العامة للجيش الأحمر.(ميخائيل بانتلييف. عملاء الكومنترن. جنود الثورة العالمية. موسكو، "ياوزا وايكسمو"، 2005)
استخدم ستالين الكومنترن في الإعداد الإيديولوجي للجماهير للإيحاء إليها بضرورة قمع المعارضين السابقين. وقد بدأت اللجنة التنفيذية لهذه المنظمة في مطلع عام 1935 بفضح "التروتسكية المعادية للثورة" حيث تبنت على الفور الرواية الرسمية، التي طرحتها النيابة العامة للاتحاد السوفيتي أثناء محاكمات موسكو. ووجهت الضربة الرئيسية إلى زينوفييف الرئيس السابق لهذه المنظمة الشيوعية وكذلك إلى كامنيف، الذي تزعم معه "المعارضة الجديدة". وقد استهدفت حملة الكومنترن تشويه سمعتهما الأخلاقية والسياسية قبل صدور قرار المحكمة وذلك لدفع الرأي العام السوفيتي إلى المطالبة بإنزال أقسى العقوبات بهما.
ومما له بالغ الدلالة أن تعليمات قيادات الكومنترن لعبت دوراً هاماً في استحسان الحركة الشيوعية في البلدان الرأسمالية لأحكام الإعدام الصادرة ضد زينوفييف وكامنيف وبوخارين وأنصارهم وأعمال القمع والتنكيل بحق الشيوعيين السوفيت والأجانب خلال الأعوام 1936-1938. ولكن من جهة أخرى فإن الجزء الأعظم من العمال الأعضاء في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية واتحادات نقابات العمال كان يشاطر تقييمات زعماء هذه الأحزاب، الذين أعربوا عن شكوكهم في صحة الرواية السوفيتية الرسمية القائلة بأن القادة السابقين للحزب الشيوعي والدولة السوفيتية كانوا جواسيس للاستخبارات الأجنبية ومخربين وقتلة.
والمعروف أنه عقب اعتقال زينوفييف وكامنيف ومجموعة كبيرة من الشخصيات الحزبية والحكومية السابقة انطلقت في الغرب موجة احتجاج شارك فيها الاشتراكيون الديمقراطيون والليبراليون البرجوازيون. وقد قيم الكومنترن هذا كله كأعمال معادية للسوفيت واعتبرها دعماً سياسياً ومعنوياً للنازية.
ومن جهة أخرى أشار ممثل" المعارضة العمالية" الكسندر شلابنيكوف في معرض انتقاده للكومنترن إلى أن نشاط هذه المنظمة بمجمله انحصر عملياً في إنشاء الأقسام الشيوعية الضعيفة مادياً وإعالتها على حساب ممتلكات جماهير العمال الروس، الذين ضحوا لقاء تأمينها بدمائهم وحياتهم، ولكنهم لا يستطيعون الاستفادة منها في الظروف الحالية حيث يجري إنشاء أسراب من الخدم والحشم البرجوازيين الصغار، الذين يتلقون الدعم بالذهب الروسي...". ولكن من الصعب الاعتقاد جدياً بأن هذه الأقسام عالة على حساب الدولة السوفيتية و"الذهب الروسي" وأن نشاطها اقتصر على ذلك دون أن تقدم أي منافع للسلطة السوفيتية. فقد كانت، في واقع الأمر، تنفذ بطاعة عمياء كافة الأوامر والتعليمات الصادرة من موسكو. وفي حال الاستياء من وجود نزعة مستقلة لدى بعض الزعماء كان يجري على الفور استبدالهم بأشخاص مطيعين. وفضلاً عن ذلك كانت الأحزاب الشيوعية الأجنبية تنشئ حولها في بلدانها وسطاً اجتماعياً من النوادي والجمعيات والمنظمات المتعاطفة سراً أو علناً والتي بوسعها تعبئة الرأي العام لصالح الاتحاد السوفيتي.
ومع ذلك فقد كان ستالين ينظر باستخفاف إلى الأممية الشيوعية ومسؤوليها الأجانب. وقد تساءل في إحدى جلسات المكتب السياسي عام 1927 قائلاً:" من هم يا ترى جماعة الكومنترن؟ إنهم أناس طفيليون يعيشون على حسابنا ولن يستطيعوا بعد 90 عاماً أن يصنعوا ثورة واحدة". وكانت كلمة "دكان" الكلمة المفضلة لستالين لدى وصفه للكومنترن. ورغم هذا الموقف فإن الزعيم السوفيتي حرص أشد الحرص على سلامة هذه "الدكان" لكونها كانت تخدم على أحسن وجه أهدافه في مجال السياسة الداخلية، ومناوراته على صعيد السياسة الخارجية.
وفي نهاية المطاف طرح ستالين جانباً فكرة الثورة العالمية وانتقل إلى مواقع الوطنية السوفيتية أو القومنة الروسية، إن صح التعبير، وإلى التركيز على فكرة بناء الاشتراكية في بلد واحد وتطبيقها. ولهذا فإن الكومنترن أصبح عائقاً في طريقه مما دفعه ،ضمن أسباب أخرى، إلى التنكيل بالشيوعيين الأجانب العاملين في أقسام ومؤسسات الكومنترن إلى جانب المقيمين كلاجئين سياسيين. كما شملت حملة التنكيل مؤسسة "الأممية النقابية" ومنظمة "الشبيبة الأممية الشيوعية" و"المنظمة الدولية لمساعدة الثوريين" وجميع المؤسسات التعليمية التي احتضنت طلبة من مختلف البلدان. وبالإضافة إلى ذلك كان ستالين يخشى من انتصار ثورات اشتراكية في بلدان أخرى غير تابعة له بحيث ينتقل مركز الحركة الثورية من موسكو إلى مكان آخر وتخضع هذه الحركة إلى تأثير الأممية الرابعة، التي أسسها تروتسكي.
في خريف عام 1927 قرر ستالين أن الصين بدأت تشهد وضعاً ثورياً فأرسل إلى مدينة كانتون(غوانجو) الصينية الشيوعي الألماني هانيس نيمان والشيوعي السوفيتي بيسو لوميدزه بمهمة الإشراف على إعداد انتفاضة هناك، ثم نظم عملاء ستالين انتفاضة في كانون 1/ ديسمبر من العام نفسه. ولكن سرعان ما جرى إخمادها. وعقب ذلك أعدمت السلطات الصينية أكثر من 5 آلاف ثائر. واتهمت حكومة شان كاي شيك الاتحاد السوفيتي بالتدخل في الشؤون الداخلية للصين والتحريض على أعمال التمرد وأغلقت معظم الممثليات الدبلوماسية السوفيتية في البلد.
في كثير من الأحيان كان الارتباط الوثيق بين الدبلوماسية التقليدية والنشاط الدعائي للكومنترن يتجلى في استخدام الممثليات الدبلوماسية السوفيتية كمراكز للكومنترن. فعلى سبيل المثال كان غيورغي آغابيكوف وهو أحد مسؤولي جهاز الأمن السوفيتي" أو.غي.بي. أو" عميلاً مقيماً للكومنترن في القنصلية السوفيتية بمدينة مشهد الإيرانية. وفي أفغانستان كان الممثل المفوض للاتحاد السوفيتي( السفير) ليونيد ستارك يعمل في الوقت نفسه ممثلاً سرياً للكومنترن في أفغانستان والولايات الشمالية للهند. وكان الاتحاد السوفيتي في العشرينات قد ركز اهتمامه بشكل أساسي على ثلاثة بلدان وهي ألمانيا وإنجلترا والصين، التي أصبحت الأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية السوفيتية.
وخلال انعقاد الكونغرس السابع (عام 1935) حدث انعطاف كبير في توجهات الكومنترن، إذ استطاع الوصول إلى استنتاج صحيح حول الفرق والاختلاف بين النازية" و"البرجوازية الديمقراطية". وأكد الكونغرس على أنه من الضروري لخوض الصراع ضد النازية والفاشية استخدام تكتيك"الجبهة الشعبية" على نطاق واسع وتوحيد القوى اليسارية. ولكن نضال الكومنترن المناهض للنازية انقطع عقب توقيع معاهدة مولوتوف – روبنتروب في آب/ أغسطس عام 1939 حيث وجدت أحزاب الكومنترن نفسها مضطرة إلى إعادة توجهها بحدة نحو النهج الجديد مما أدى إلى تشويه سمعتها في بلدانها.
بدأت أعمال الملاحقة والتنكيل إزاء رجالات الكومنترن قبل توقيع معاهدة مولوتوف – روبنتروب وجاءت امتداداً للتطهيرات الستالينية الكبرى. وقد أعرب ستالين في شباط/فبراير عام 1937 عن مخاوفه من أن الكومنترن يضم أشخاصاً يعملون لصالح الغرب. وكرر ذلك وزير الداخلية نيكولاي ييجوف، الذي زعم بوجود جواسيس كبار يعملون في أجهزة الكومنترن. وما لبث بعد ذلك أن انهال سيل الملاحقات وأعمال التنكيل بحق الشيوعيين الأجانب واللاجئين السياسيين، الذين كانوا يقيمون في الاتحاد السوفيتي هرباً من الملاحقات ومضايقات أجهزة الأمن في بلادهم. وشملت هذه الملاحقات العاملين في جهاز اللجنة التنفيذية للكومنترن حيث شاطر العديد منهم المصير المأساوي لضحايا القمع والطغيان. ففي النصف الثاني من عام 1937 اعتُقل أعضاء قيادة الحزب الشيوعي الألماني غوغو ايبرلين وهرمان ريميليه وهينتس نيمان وهانس كيننبرغير وأعدموا جميعاً. وعندما بدأ ستالين بمغازلة هتلر جرت حملة اعتقالات واسعة في أوساط الألمان المقيمين في الاتحاد السوفيتي تم خلالها تسليم زهاء ألف شيوعي ألماني للغستابو. كما تعرض للاعتقال ثم للإعدام قادة الحزب الشيوعي اليوغسلافي ميلان غوركيتش وفيليب فيليبوفتش ثم لاحقاً فلاديمير تشوبش العائد من إسبانيا حيث قاد اللواء الأممي الخامس عشر(لواء لينكولين). ووصل عدد الشيوعيين اليوغسلاف، الذين شملتهم التطهيرات الكبرى زهاء 800 شخص. كما اعتقل ثم أعدم السكرتير العام السابق للحزب الشيوعي اليوناني كايتاس. ولقي نفس المصير أحد زعماء الحزب الشيوعي الإيراني عضو اللجنة التنفيذية للكومنترن آفيتيس سلطان زاده. كما جرى في عام 1937 اعتقال صديق لينين فريدريك بلاتين أحد مؤسسي الكومنترن ومؤسس الحزب الشيوعي السويسري، الذي رافق لينين في ربيع عام 1917 من سويسرا وحتى الحدود الروسية. وقد زج به في معسكر الاعتقال "لبيوفو" بمقاطعة أرخانغلسك وتوفي هناك عام 1942 في ظروف غامضة.
طال القمع والتنكيل طائفة كاملة من قادة الحزب الشيوعي البولندي. وتنوعت اتهامات ستالين لقادة هذا الحزب بدءاً من التروتسكية ومعاداة البلشفية وانتهاء بمعاداة السوفيت. وأدت هذه الاتهامات إلى التصفية الجسدية ليوجي تشيشكو- بوخاتسكي وإدوارد بروخنياك ويوليان لينسكي. وفي عام 1937 شملت موجة الاعتقالات والإعدامات مؤسسي الحزب الشيوعي المجري وقادة الجمهورية السوفيتية الهنغارية بما فيهم الشخصية البارزة في الحركة الشيوعية العالمية بيلا كون وكذلك ديجيو بوكاني ويولان كيلين وفريديش كاريكاش وذلك بتهمة تزعم منظمة إرهابية معادية.
كما وقع تحت آلة القمع الستاليني الشيوعيون البلغار( حوالي ألف شخص) ومنهم رومان أفراموف الحائز على وسام لينين وخريستيان راكوفسكي وبوريس ستومونياكوف. وشملت هذه الأعمال الحزب الشيوعي الروماني وتعرض للتنكيل مؤسسو الحزب الشيوعي الفنلندي غوستاف روفيو والكسندر شوتمان والسكرتير الأول للحزب كوليرفو مانير والعديد من الشخصيات الأممية الفنلندية.
وفي خضم هذه الموجة اعتقل أكثر من مئة شيوعي إيطالي من المقيمين في الاتحاد السوفيتي وأرسلوا إلى المعسكرات. كما ذهب ضحية التصفيات الستالينية الكبرى قادة ونشطاء الأحزاب الشيوعية في بلدان البلطيق وأوكرانيا وبيلوروسيا الغربية (قبل ضمها إلى الاتحاد السوفيتي).
وامتدت يد الإرهاب الستاليني إلى أعضاء المنظمة العسكرية للاشتراكيين الديمقراطيين اليساريين النمساويين("رابطة الدفاع")، الذين هربوا إلى الاتحاد السوفيتي مع رفاقهم الشيوعيين عقب فشل انتفاضتهم المسلحة ضد الفاشيين بألنمسا في شباط/ فبراير عام 1934.
وفي الوقت نفسه استمر العمل في النهج الرامي إلى"بلشفة الأحزاب الشيوعية". واستخدم ستالين الأطر التنظيمية للكومنترن لفرض منطلقاته وأساليبه الآمرية في الإدارة، التي عرقلت روح المبادرة لدى الأحزاب الشيوعية. وكانت علاقة الكومنترن مع الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والأممية الثانية متوترة للغاية. وفُرض على هذه المنظمة الأممية الشيوعية تكتيك المواجهة المكشوفة مع بقية القوى اليسارية. فقد رفض الشيوعيون الألمان تشكيل جبهة موحدة مع الاشتراكيين الديمقراطيين لوقف زحف النازيين. وعوضاً عن ذلك ادّعوا بإيعاز من ستالين أن الاشتراكيين الديمقراطيين لا يختلفون عن النازيين واعتبروهم "اشتراكيين فاشيين ". وقد ساعد هذا الانقسام في صفوف الحركة العمالية الألمانية، إلى حد ملموس، على تصاعد الخطر الفاشي ووصول النازيين إلى السلطة عام 1933 في ألمانيا إذ أضحت القوى اليسارية مبعثرة رغم شعبيتها الكبيرة وباتت عاجزة عن مقاومة الدكتاتورية اليمينية. وأسفرت هذه السياسة عن وصول قوى رجعية وأنظمة فاشية في جميع بلدان أوروبا الشرقية تقريباً.
كان يقيم بالاتحاد السوفيتي في منتصف الثلاثينات عشرات الآلاف من الشيوعيين واللاجئين السياسين الأجانب. وكان هؤلاء موظفين في دوائر وأجهزة الكومنترن أو أساتذة وطلاب في المدارس التابعة له. واشتغل العديد منهم في المنظمات الدولية الشيوعية الأخرى مثل " الأممية النقابية" و"الشبيبة الأممية الشيوعية" إلخ.. كما كان الكثيرون منهم يعملون في المصانع والمؤسسات السوفيتية.
وفي كتابه "اللعبة الكبرى"( موسكو،"بوليت ايزدات "، 1990) يشير رجل الاستخبارات السوفيتية السابق ليوبولد تريبير إلى أن 80% من هؤلاء المهاجرين تعرضوا لشتى أشكال الملاحقة والاضطهاد والقمع في سنوات التطهيرات الستالينية الكبرى.
وحسب قوله فإنه لم يتجنب الوقوع في أيدي الجلادين الستالينيين من بين زعماء وكبار رجالات الأحزاب الشيوعية الأجنبية المقيمين في الاتحاد السوفيتي سوى من ساهم بشكل فعال في الوشاية بالرفاق الحزبيين، الذين كان يتعرضون للسجن والنفي أو الإعدام. ومن أبرز هؤلاء ساندزو نوساكا، الذي تزعم الحزب االشيوعي الياباني سنوات طويلة. ولكن في عام 1992 جاء إلى موسكو خبيران من أعضاء الحزب حيث عثرا في الأرشيف على رسائل نوساكا إلى ديمتروف، التي جرى على أساسها اعتقال وتصفية العديد من الشيوعيين اليابانيين. وفي العام نفسه فُصل نوساكا من عضوية الحزب بعد افتضاح أمره وفقد منصب رئيسه الفخري وكان عمره 100 عام. ومن هؤلاء الزعماء أيضاً فالتر أولبريخت، الذي وجّه عملية قمع واسعة ضد التروتسكيين الألمان والنمساويين والسويسريين. والمعروف أنه أظهر نشاطاً كبيراً في هذا المجال أثناء الحرب الإسبانية الأهلية. كما أن جوزيف بروز تيتو كان على هذه الشاكلة. وفيما بعد صور الشاعر الألماني المهاجر يوهانيس بيخير الأجواء في أوساط الشيوعيين الأجانب المقيمين في موسكو قائلاً :" سادت هناك شريعة الغاب حيث لا أحد يثق بأحد ويغدو الصياد فريسة والفريسة صياداً وينحصر النشاط السياسي في تسليم "الرفاق القريبين".
وفي المحصلة وقع ضحية التصفيات الستالينية الكبرى بدءاً من منتصف الثلاثينات وحتى عام 1940 ممثلو 31 بلداً في الكومنترن. وتحمل النصيب الأكبر من هذه "الخسائر" الشيوعييون البولنديون والمجريون والألمان واليوغسلاف.
وقد جرى رسمياً حل الكومنترن يوم 15 أيار/ مايو عام 1943 وذلك في غمرة التعاون والتنسيق بين الاتحاد السوفيتي وحلفائه في الائتلاف المعادي لهتلر. واستهدف ستالين من هذه الإجراء إرضاء الحلفاء الغربيين، وإثارة انطباع جيد لديهم، وتطمينهم بأنه لم يعد من الآن وصاعداً يبني الخطط لإقامة أنظمة شيوعية موالية للسوفيت في أراضي البلدان الأوروبية. ومع ذلك فإن اللجنة التنفيذية لم تحل عملياً وإنما استحدث عوضاً عنها القسم الدولي للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي.