د.إلهام الجواهري
[size=32] قوة جدي وسرّها[/size]
اسندت رأسي على حافة النافذة المعدنية .. دغدغ تيار الهواء العابر رأسي وهو يبعثر شعري بفوضى .
رائحة القدّاح واوراق اشجار البرتقال والليمون والنارنج الندية تفوح عند الفجر وتعطّـر الهواء العابر .
اسرحُ في افكار واحلام جميلة تتسارع في رأسي كتسارع السيارة التي راحت تقطع الدرب الملتوي بين بساتين كربلاء .
.. نسمة هواء منعشة باردة توقظني من احلامي على حديث ابي وامي :
_ اعرف أنكم جعتم جميعا ! ..سيكون أبي في انتظارنا حين نصل البيت وقد أعدّ الافطار، قيمر وخبز حار ومربى السفرجل التي تحبونها .
اعتدنا أن نسافر الى بيت جدي كل عطلة صيفية وربيعيه.. هناك حيث بيته الكبير وسط بستانه الواسع، وحيث لمّة الاهل وبعض الاقارب وعددا غير قليل من الاطفال بمختلف الاعمار ، واجمل كل ذلك عندي هو جدي بينهم ووجودي شبه الدائم بقربه .
احببناه كثيرا واحبنا اكثر، نحن اطفال ابنه البكر .
مثلما نقوم نحن بزيارته، يقدم الى بيتنا في بعقوبة بين الحين والآخر بين العطلتين، محملا بهداياه الجميلة الغريبة والتي لا تخلو ابداً من كيس كبير من الكرزات .
لم أَر جدي يوما دون كيس كرزات صغير في جيبه .
لم تَغبْ صورته عن مخيلتي، والى يومنا هذا !
شيخ كبير، ذو شارب كث ولحية طويلة سوداء ( لابد وانه كان يحرص على صبغهما بعناية كل فترة ) .. وجه ابيض مائل الى الطول وعينان وسيعتان بين الخضرة واللوزية.
طويل القامة قوي البدن .. عملاق جميل باسم الوجه ( لست ادري اكان فعلا بهذه القامة المديدة، أم أنها ضخامة الاشياء في عالم الطفل الصغير ؟! ) .
اثناء لعبنا وصخبنا نحن الاطفال في بستانه، وشعبطتنا كالقرود بين الاغصان وقفز الجداول الصغيرة، والركض وراء الفراشات وفرحي الكبير بهذا الجو الذي افتقده في بيتنا، احسست بوخزة قوية في ظهري انتقل ألمها الشديد الى فخذي وساقي اليمنى .
صرختُ باكية من الوجع الذي آذاني وافزعني في الوقت نفسه .
ابن عمتي السمين جلال، الذي يكبرني ببضع سنين، يقف خلفي ضاحكاً وبيده عصى طويلة ثُـبت في رأسها دبوس كبير .
هربت بفزع لاحتمي وراء عمتي التي كانت تقف غير بعيد عنا واختبأت تحت عباءتها ولم اسلم لا انا ولا هي من وخز دبوسه المستمر .
توقف الوخز فجأة وسمعت صرخة توسل مرعوبة :
_ التوبة !! ، والله جدو التوبة !.. والله والنبي بعدْ ما سوّيها ! ..آخْ يا يُمّـه لِحْكَي لي !..
رفعتُ طرف عباءه عمتي وتلصصتُ النظر وانا امسح دموعي ومخاطي .
كان مشهدا غريبا ومضحكا في الوقت نفسه :
جلال معلقا عاليا من ياقة دشداشته ورجلاه ترفسان في الهواء وهو يصرخ بتوسل وفزع باكٍ الى جدي الذي رفعه من ياقة جلبابه كريشة تعبت بأطرافها الريح .
في طريق عودتنا سالت أمي :
_ كيف يكون جدي بهذه القوة وقد جاوز التمانين كا قلتِ لي .
_ لأنه يأكل اللوز والجوز والفستق، يعني الكرزات بكثرة .
اجابتني بلهجة جادة .
مرت ايام عديدة بعد عودتنا وانا مستمرة على اكل الكرزات .
.. في الصباح وقبل الافطار كرزات.
..في المدرسة وفي الفرص بين الحصص كرزات .
..في الظهر قبل الغداء وبعده كرزات .
..حتى في الليل حفنة منها قبل النوم .
كنت اريد ان اكتسب بسرعة قوة جدي، مع استمراري على شرب عصير العنب الاسود في اوقات عديدة من اليوم كي اكتسب ذكاء ابي ايضاً .
كاد عمري أن ينقصف، بعد نوبات شديدة لا تنقطع من القيء والاسهال المستمر، لولا سعة رحمة الله وعناية الاطباء الطويلة .