لغةُ الأمّ“ بٱختصار شديد”
د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
[size=32]لغةُ الأمّ“ بٱختصار شديد”[/size]
تعقيبًا على المقالات التي نُشرت في السابع عشر من الشهر الحاليّ، بمناسبة يوم اللغة العربيّة في صحيفة القدس العربيّ الإلكترونيّة https://www.alquds.co.uk
في-اليوم-العالمي-للغة-الضّاد-أكاديميّ/ اِرتأيت أن أقول:
أُثيرت في هذه المقالات القصيرة، حولَ واقع العربيّة المعياريّة (MSA) ومستقبلها، نقاط عديدةٌ ذات بال، يعرفها المختصّ، وفيها ما هو نابع منَ العاطفة والتمنّي وفيها الكثير من النواحي الموضوعيّة بصدد أسباب تردّي معرفة العربيّة المعياريّة (لا بدّ من التفريق بين مستويات العربيّة، المكتوبة والمحكيّة على حدّ سواء) ونفور العرب الجليّ منها وإقبالهم على تعلّم لغات أجنبيّة كالإنجليزيّة والفرنسيّة وفي الأراضي المقدّسة، اللغة العبرية الحديثة. إنّ لغةَ أمّ أيّ شعب لهي لسان هويّته وعنوان اِنتمائه، إذ أنّها شأن وطنيّْ وقوميّ من الدرجة الأولى، كما أنّها مسألةٌ إستراتيجيّة وسياسيّة. وتعدّ هذه العربية حجر الرَّحى في الذود عن أمن العرب الثقافي.
ذُكرت بعض الصعوبات والمنغّصات في قواعد العربيّة وكلّها في النحو وبقي عِلم الصرف، رغم أهميّته الكبيرة مغموطًا حقّه، وبُعد الكثير منها، إن لم نقلْ معظمَها، عن الجانب الوظيفي للغة. القواعد في أيّة لغة بشرية طبيعبة، يجب أن تكون وسيلةً وليست هدفًا بحدّ ذاته، وسيلة لكتابة سليمة وقراءة صحيحة وتحدّث مُرضٍ. أرى أنّ أهمَّ سبب موضوعيّ لحالة العربيّة المعياريّة المتضعضعة لدى العرب، هو أنّها ليست لغةَ أُمّ أيّ عربيّ في العالم بحسب التعريف العلميّ اللغويّ المعاصر لعبارة "لغة الأم"(mother tongue).
وهذه العربيّة، لا يمكن وصفُها بأنّها لغة حيّة بنحو كامل، بمعنى أنّها مستعملةٌ لدى الجميع في كلّ مناحي الحياة وظروفها. إنها ليست لغة مخاطبة عادية. لغة كلّ واحد من العرب هي لغته/لهجته العامّيّة، وشتّان ما بينها وبين المعياريّة. للغة الأم مجالها وللغة القوميّة مقامها الرفيع، ومن المعروف أنّ البون بينهما، الازدواج اللغوي (diglossia) ما زال عميقًا وواسعًا رغم أنّه يتقلّص طرديًّا مع تقدّم مشروع مَحْو الأمّيّة في العالم العربيّ ولا أحد يعرف متى ستكون نهايتها وبداية أمّية من نوع آخر أشدّ وطأة.
لا ريبَ في أنّ أحد العوامل الأساسيّة لغرس مبادىء قواعد العربيّة المعيارية لدى الطفل الغضّ بالفطرة، هو الاستماع إليها واِستخدامها مبكّرًا، في روضة الأطفال، فهذا الجيل، السنوات الخمس- الستّ الأولى من حياة الطفل، هو الأمثل والأسرع والأنجع لاكتساب ما يسمّى بقواعد اللغة، أية لغة في العالم. هذه الجزئيّة غدت ثابتةً في العلوم اللغوية والنفسيّة المعاصرة.
قيل ”والمغلوب مولعٌ أبدًا بالاقتداء بالغالب“ (مقدمة ابن خلدون الفصل الثالث والعشرون).
أمّا كيف يُمكن تحبيبُ العربية المعياريّة، صرفها ونحوها، على قلب التلميذ العربيّ وعقله، فلا جوابَ شافيًا في جُعبتي في خضّم هذه الأوضاع الرديئة السائدة في شتّّى المجالات في العالم العربيّ الراهن!
مع هذا، يبقى إعلاء شأن هذه العربية المعياريّة منوطًا بأبنائها الغيورين، إذ لا أحدَ يستطيع امتطاءَ الآخر إلا إذا حنى رأسَه وظهرَه!