في مواجهة الذات والعالم وتحديات الواقع
نمر سعدي: شاعر فلسطيني
[size=32]في مواجهة الذات والعالم وتحديات الواقع[/size]
هاشم شفيق / شاعر من العراق
تسارع وتيرة الشعر العربي وتطور مساراته الجمالية، ومن ثم دخوله في أنفاق الميديا الحديثة ووسائل الاتصال الاجتماعي، وظهوره اللافت في العقد الأخير، على مستوى النشر عامة، وحيثما كانت دور النشر، بات يلفت انتباه أشهر الجوائز العربية، وراح يستعيد مكانته التي تزحزحت بفعل فورة الرواية، الآخذة الآن بالانحسار والتراجع، بعد أن هبَّ واندفع كلّ من كان يجد لديه بعض الحكايات، والسرود، والحواديت، لطبعها، ثم تقديمها إلى القارئ العربي، هذا القارئ الذكي الذي أضحى يعرف الجيّد والحقيقي، من الرديء والمصطنع.
بين أيدينا مجموعة شعرية لشاعر فلسطيني صاحب تجربة مختلفة ومغايرة، يكتب القصيدة الموزونة، وهو من قرية جليلية تقع شرق مدينة حيفا، شاب ينشر الشعر منذ عقد ونصف، إنه الشاعر نمر سعدي، أصدر ديوانا شعريا جديدا، عن دار "روافد للنشر والتوزيع" في القاهرة.
في ديوانه “تقاسيم على مقام الندم” نلاحظ أن شعره وليد تجربة شعرية عربية، لها محطاتها وشعراؤها وأزمنتها وأجيالها، وهذا ما لمسناه ونحن نقرأ لهذا الشاعر الحيفاوي، المقيم في زمن الاحتلال على الأرض الفلسطينية العربية عامة، فهو قد نما، وتغذّى من أنساغ وأمشاج الشعر الفلسطيني هناك، بدءاً بتجربة سميح القاسم وصحيفة “الاتحاد” التي كان يرأس تحريرها، حيث نشر الشاعر نمر سعدي أولى قصائده، في هذه الصحيفة اليسارية، لينطلق فيما بعد، في رحاب، ومناخات، ومساقات الشعر العربي، صانعاً صوته الجديد، بعناء واضح، من خلال نضج تجربته الشعرية والجمالية، مستنداً إلى موهبة نشطة، وذات بعد معرفي، عارفا بخبايا المَلَكات الشعرية، تلك التي أهّلته في أنْ يمتح من كل ما يصادفه، وتراه وتعرفه عينه وذائقته، من جماليات، وفنون، ومعارف، لتحوّله في المآل، وعبر فرن التجربة الشخصية، إلى شعر حار وملموس، قادر على استبطان تفاصيل الراهن، ليبحر عبر ذلك في التيارات العالية للماضي البعيد، مستشرفاً بلغته الغنائية، المرنانة، ما مضى واندثر، كقصيدته “عطر الموريسكيّات” التي تُلقي بضوئها اللغوي، المستجلي للماضي العربي، من أندلس مضاع “سيكون وصلٌ ما بأندلسٍ، وليلٌ مشبعٌ بالعطر، من أثر الموريسكيّات، يا قلبي ولو طال العذاب”.
يحفل الديوان بالرموز والاستيحاءات، والانثيال الرمزي المفعم بالبعد النغمي، ذي التبعية الموسيقية، تلك المتأتية من تنوّع الأوزان، والسيطرة على الرنة الوترية، المنتسجة في تضاعيف القصيدة، وليست تسمية الديوان “تقاسيم على مقام الندم” ببعيدة عن هذه المزية، فالتطويع الماهر للأوزان وتنوّعه، واتساقه مع المتجاورات والانتقالات والتضمينات، قد منح الديوان مقاماتٍ، وأحوالاً، وأنسقة تعبيرية صائتة، صنجيّة التشكيل، فالصنج الشعري النغمي لدى نمر سعدي أعطى للقصيدة أهازيجها الخاصة، وسوّغها لكي تكون نوعاً من التغاريد، والأغاني ذات المنحى الإنشادي، والمشرَّعة على الرموز البائنة، مثل زليخة، والمثنوي، فاتك، ابو تمّام، الشيرازي، كربلاء، العنقاء، الموريسكيات ، التروبادور، وناي أندلسي، وغيتارة حنين أزرق، والسياب، وخليل حاوي، إنها رموز مستندة إلى تراجيع غنائية، وتدوين للقافية، وهي تتقدم، وتتنغّم وتطوّح بين المعاني، والمعرفيات المستوحاة من أساطير وملاحم، وأسماء أجنبية، أديسوس، إلسا، أراغون، نيرودا، بيكاسو، ماريو فارغاس يوسا، لوركا، موتسارت، منتقيات تتواتر، أو تتدافع، لتزحم الديوان وتتخمه بالتضمينات وأسماء العلم، وأحياناً تغرقه بالكنايات والإضافات والاستعارات المتوالية، والمنهمرة بكثرة على طول صفحات الديوان.
من قصيدة السياب وهي من القصائد المشغولة بعناية يقول:
“ينتابني السيابُ لا كهبوبِ عصفور على عينيَّ،
يغمسُ قلبه في الدردنيلْ
بل مثل موج الوجدِ، مثل دموع عاشقةٍ
ترى المعشوق في قمر النخيلْ،
ينتابني السيّابُ، حين أغيبُ عن حبق المنازلِ
في الطريقِ الساحليةِ، حين لا ترقى يدايَ
إلى قناديل الحديقةِ
والغوايةِ والزمان المستحيلْ”
وثمة قصائد كثيرة أخرى قد كتبت على بحور الكامل والرجز والهزج والمتقارب والخبب والطويل، وأغلب هذه القصائد حسنة الإيقاع، ساطعة النبرة، وذات غُنّة من جهة تكوين الجملة الموقّعة، المحكومة بالجِرْس الموسيقي المختال كقصيدة “طريق عمودية”.
ولا يغفل الشاعر نمر سعدي، وهو في ذروة انهمامه بالإيقاع، الصور الشعرية الموحية والدالة، تلك التي تحمل دلالتها أحياناً، بدلاً من الإيقاع، أو يحاول أن يتحاشى الإيقاع مرات عندما يميل إلى القصيدة المدوّرة، وهناك عدة قصائد من هذا الشكل الفني والتعبيري قد ضمّها الديوان، وتميل إلى هذا النسق الفني، في محاولة منه تصبو إلى الإبدال، والحد من تصاعد التواتر اللفظي، والدندنة الزائدة، لذا وجدناه يقوم بتدوير الوزن، ثم تطويعه لغاية فنية نثرية، وقد تحقق ذلك في هذه القصيدة التالية، وغيرها من القصائد المدوّرة “في مثل هذا اليوم قبل روايتين طويلتين، وصحبة رعويةٍ لقصائد الأمطار، قبل علاقتينِ وزهرةٍ في السور، تحرسُ ظلها وسرابها، قبل السراب وبرعمينِ، تفتَّحا في الريح وانسلا من الفصحى ليمتحنا كلامهما الطريَّ على مواجهة العواصفِ، بالمجازِ وبالبلاغة كانت امرأة بلا ندمٍ يعذّبها ويسحبها برفق وصيفةٍ شرقيّةٍ في الليلِ من يدها، ومن غدها، لتمسح عن زجاج الذكرياتِ غبارَ رغبتها القديمة”.