الاغنية وتاريخ الصلاحية
عبدالكريم ابراهيم
الاغنية وتاريخ الصلاحية
اختلاف الاجيال حركة لابد ان تدور رحاها في الزمن، وان تلقي بتأثراتها على جميع نواحي المجتمع. فلكل جيل مؤيد ومعارض ينطلق وفق مقايس يؤمن بها، ويريد أن يعممها على الآخرين تحت سطوة المغايرة أو المحافظة على التراث.
هذا الصراع السرمدي يلقي بظلاله على مفاصل الحياة ، ولعل الاغنية كونها أداة للتعبير الذوقي من الحتمي أن تطالها حركة التغير هذه سلباً أو إيجاباً. ومع إيمان الكثير بضرورة التحول الايجابي، فان هناك قواعد اساسية تكون قاعدة، وأساس ومنطلق لكل تغير يحدث. الاغنية تحكمها ثلاث قواعد لا يمكن فصلها عن بعضها بعضا، لأنها سلسلة لا تستطيع قطع أحدى حلقاتها. الكلام واللحن والصوت: الثلاثي الذي يتحكم في وجودة أي أغنية، وفي حالة فقدان أي جزء من هذه الأجزاء تصبح العملية عرجاء ويصيبها الخلل بفقدان أحدى أركانها.
عاشت الأغنية العراقية الحديثة، مراحل تطور حتى وصل إلى مرحلة النضوج الأنموذجي في الأغنية السبعينية، واصبحت هي المثال التي يمكن يعول عليه في القياس في الفترات اللاحقة. عوامل عديدة جعلت من الأغنية السبعينية تتسيد المشهد العراقي، ولعل تلاشي ملاحم الاغنية البغدادي، وطغيان اللهجة الجنوبية المحسنة على اجواء الأغنية العراقية من خلال سيطرة كتاب وشعراء وملحين ومطربين ينحدرون من أصول الجنوبية؛ جعل الاغنية السبعينية تبرز بشكل تدريجي لملأ الساحة العراقية التي كانت مهيأة لمثل هذا التحول ، ولعل الهجرة الى العاصمة بغداد ساهم في تعزيز وتجذير هذا التحول الذوقي. اختلف الوافدين الجدد عمّا سبقهم من الذين سحرتهم اضواء بغداد، وجذبتهم لأغراض الشهرة وكسب العيش. المطربون الاوائل كداخل حسن وخضيري أبوعزيز وناصر حكيم وغيرهم من رواد الاغنية الريفية حافظوا على اصول الأغنية التي نشأوا عليها، وقدموا فناً فطرياً لم تمسه أدوات التغير، فغنوا الاطوار الريفية كما عرفوها في مهدها الاول. رواد الاغنية الريفية يختلفون عن الوافدين الجدد الذين كانوا يحملون رؤية جديدة حول مفهوم الأغنية العراقية، ولعل ثقافة هؤلاء الاكاديمية ساهمت إلى حد ما في بلورت هذه الطرح، فكان جيل رياض احمد وقحطان العطار وحسين نعمة وياس خضر وغيرهم. ساعد هؤلاء وجود كتاب وشعراء مهدوا للذاقة الجديدة ، وكسروا الباب امام المفردة الجنوبية في دخول إلى مسامع العراقيين بعد أن مُزجت المفردة بنوع من الترف المدنية، وتحقق هذا على يد شعراء أمثال عريان السيد خلف وناظم السماوي وجبار الغزي وزامل سعيد فتاح وحتى مظفر النواب البغدادي الذي انغمس في اللهجة الجنوبية لدرجة التخمة. وزاد من سطوة الاغنية السبعينية ان اغلب الملحنين ينحدرون من نفس المكان بحيث شكلوا نقطة تحول مع الشعراء والمطربين كمحمد جواد اموري وطالب القرغولي ومحسن فرحان وغيرهم من ملحني الفترة السبعينية، وفي حين غاب الملحنين البغداديين عن المعترك بعد رحيل ، واعتزال كبار هذا النوع من الاغنية العراقية كناظم الغزالي وسليمة مراد وعفيفة اسكندر.
بعد أن اكتمل نضوج الاغنية العراقية على يد جملة من المطربين في سبعينيات القرن الماضي ،امتلكت الاغنية مقومات البقاء لأكبر فترة من الزمن فكانت أغاني ( ياحريمة، الريل وحمد، ياطيور الطايرة ،موغريبة، نخلة السماوة ..الخ) وغيرها من مئات الأغاني حظيت باهتمام المتلقي العراقي باختلاف أجياله. وبعد ذلك سار بعض المطربين الشباب على خطى أسلافهم لكنهم لم يقدموا للأغنية اضافة جديدة سوى تقليد من سبق ،سلوتهم في الجمود الغنائي، أنهم يريدون البقاء على الموروث الاصيل ، والمحافظة عليه من الدخلاء حسب اعتقادهم مما جعل أغنية الثمانينات والتسعينيات امتداد طبيعي لمن سبق حتى اصيبت الأغنية العراقية بالمحلية بسبب اللهجة ،وقواعد الغناء الصعبة التي أساسها المقام العراقي والاغنية الريفية بأطوارها المتعددة.
أذن اصبحت الاغنية العراقية أمام تحدٍ لانطلاق في رحاب أوسع بعد انتشار الفضائيات ومواقع التواصل .ولكن كيف السبيل إلى هذه الغاية في ظل لهجة واصول صعبة، ولاسيما أن المتلقي العربي يفضل الأغنية المصرية على حد بعيد لأنها طرح نفسها عبر جملة من الافلام والمسلسلات التي كانت تدخل كل بيت عربي.
يمكن القول أن الفنان كاظم الساهر ادرك هذه الحقيقة وسعى الى حد ما للتغلب على مشكلة اللهجة العراقية .ربما يكون المطرب سعدون جابر سبقه في طرق هذا الموضوع ، ولكنه لم يحظى بتلك الميزة لأسباب عديدة ولعل مقدمتها التطور التكنلوجي . ولكن الساهر استطاع من ترويض الاغنية العراقية كما فعل ناظم الغزالي من قبل، وتحولها الى لغة طيعة سلسلة. كما يحسب لكاظم الساهر نقل الاغنية من عوالم الحزن إلى عوالم الفرح ساعده في التحول والانقلاب الجذري شعراء نأوا بأنفسهم في الخوض في الحسكة الموغلة في الشعبية ؛فجاءت اشعارهم لذيذة ،سلسلة، مفرحة تستطيع الذاقة العربي هضمها دون تردد. وقد يكون الشاعر كريم العراقي صاحب الفضل الكبير في مساعدة الساهر في غايته هذه مما جعل الكثير من المطربين ا يسعون أن تكون أغانهم من كتاب عراقيين.
بعد مرحلة الساهر التي لاحقت روجاً كبيراً حتى وصلت العالمية ، اصيبت الاغنية العراقية بحالة التشظي، فلم يستطع الجيل الجديد أن تكون له بصمة واضحة ،وأيضا هم لم يسيروا على خطى الرواد. كأنهم فقد المشيتين ،الكلام واللحن والصوت نفسه يتكرر ان اختلفت الاسماء ،حتى بعض الاغاني التي كتب لها النجاح لمدة زمنية محدودة كأنها اغاني ( EXP).