هل ستنتج الأزمة الاوكرانية نظاما عالميا جديداً؟
د.ضرغام الدباغ
هل ستنتج الأزمة الاوكرانية نظاما عالميا جديداً
ابتداء نتفق مع علماء العلوم السياسية والمحللين والباحثين أن أزمة أوكرانيا سوف لن تمر بدون نتائج كبيرة، إن مباشرة أو غير مباشرة .. وهذه النتائج ستضاف إلى التراكم الذي يتواصل منذ 1990، أي منذ نهاية الحرب الباردة التي أفرزت النظام الدولي الجديد والذي أطلق عليه العولمة (Globalisation). الأزمة الاوكرانية ستصيب النظام العولمي إصابات بالغة، ولكن ليس الأزمة الأوكرانية هي الوحيدة التي أنهكت الديناصور الإمبريالي.
الحرب العالمية الأولى أنتجت نظام عصبة الأمم الذي شرعن الاستعمار صراحة وعلنية، وراحت الدول الاستعمارية القديمة والجديدة (ألمانيا وايطاليا والنمسا) تحاول مزاحمة الدول الاستعمارية القديمة (بريطانيا وفرنسا)، وفي تفاعلاتها اللاحقة، قادت إلى الحرب العالمية الثانية، التي أنتجت معسكرين : اشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي، والرأسمالي بقيادة متروبول الرأسمالية الاحتكارية الولايات المتحدة الأمريكية. وسرعان ما تهاوى التحالف الدولي الذي هزم دول المحور " ألمانيا، أليابان، إيطاليا "، وبدأت الحرب الباردة بين معسكرين عملاقين.
الحرب الباردة انتهت، بتراجع الاتحاد السوفيتي الذي قرر حينها بعد قراءة دقيقة وجرد مادي للموقف السياسي والاقتصادي والعسكري، عدم مواجهة الولايات المتحدة وحليفاتها (الناتو)، وما ينتج عن الحروب من اقتسام نفوذ سياسي واقتصادي وحصد لمكاسب الفوز، جرى على نحو هادئ، ذلك أن القيادة السوفيتية قررت إنهاء الحرب سلميا وعلى طاولة مفاوضات بين الرئيس بوش الأب والسوفيتي غورباتشوف، مفاوضات مالطا (3 ـ 4/ ديسمبر/ 1989) ، ومن المرجح وجود ملاحق سرية في التفاوض السوفيتي / الأمريكي، ويفترض أن الاتحاد السوفيتي أقر بتسليم بعض مناطق نفوذه التقليدية للأمريكان، ومنها وفي مقدمتها الشرق الأوسط، وهو ما يفسر الهجمة الشرسة العدوانية الأمريكية على دول الشرق الأوسط.
بيد أن حسابات الحقل لا تنطبق غالبا على حسابات البيدر، فالغول الأمريكي الذي اعمته نشوة الانتصار، وأعتقد أن الدنيا بأسرها دانت له، وفي هذه اللحظة بالذات ابتدأ انحدار النظام الإمبريالي / العولمي، فشعور بالأستيلاء التام ومصادرة حقوق ومصالح الغير، سيؤدي إلى موقف جديد، أعداء وحلفاء، و سيقود بالضرورة إلى أن يعيد المهزوم حساباته جذرياً، وحتى الحلفاء أن يتوجسوا خيفة من تزايد طلبات المنتصر، وتجاهل لمصالحهم .. لذلك لا يمكن اعتبار سقوط أوكرانيا لوحدها سببا في سقوط النظام الدولي وبروز نظام دولي جديد فالأحداث التي جرت بعد عام 1990 وتراكمها هي حالتي قادت إلى موقف دفعت النظام العولمي إلى خنادق الدفاع .. في تدشين لعملية سقوط بطيئة النظام العولمي. فالنظام العولمي سوف لن يسقط بمعركة عسكرية نووية، ولا يسقط اقتصاديا بسهولة، فهو ما يزال له انياب ترليونية وصناعات فائقة الجودة ومتقدمة على أعتاب الثورة التكنولوجية الرابعة والخامسة.
ثمة ظاهرة مهمة جداً في العلاقات الدولية، وتتمثل في بروز التحالف الصيني ــ الروسي، تحالفا متيناً واعداً ينبأ بقيام قوة تتمتع بقوة سياسية واقتصادية وعسكرية لا يمكن تجاهلها، قوة سترغم النظام العولمي الأحادي القطب على إعادة حساباته، وأن مؤشرات التوازن الدولي (بكافة مقاييسه) لا تشير إلى تفوق النظام العولمي، وهذه الحقيقة الموجعة سترغم قائدة النظام العولمي على إعادة تقيمه الشامل للموقف، ومن ذلك قيام تحالف أوكس (AUKUS) الذي تشكل الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا عموده الفقري، والذي وضع نصب عينيه السيطرة على حوض الاطلسي والباسفيكي والهندي كهدف أولي .. حتماً وضعوا خطوط دفاعهم حيال العدو الافتراضي (الصين وروسيا) الذي تتطور قواه باستمرار.
الرئيس صدام حسين لم يكن قد تلقى علومه في جامعات راقية. ولم يكن قد درس الاستراتيجية، لكن مثله مثل ستالين والجنرال جياب هزم دولتين عظميين (فرنسا والولايات المتحدة) بدون أن يدخل كلية عسكرية ولا كلية أركان، والقادة العظام الذين لم تسنح لهم ظروفه ليتعلموا في مدارس راقية، ولو فعلوا ذلك لكانوا من المتفوقين والعباقرة في ميدان العلم.
وهناك نظرية معروفة تقريبا على نطاق واسع، وقال بها افلاطون، " أن العلماء والفلاسفة لا يصلحون أن يكونوا رؤساء دول ". لأن الرؤساء لا يتعاملون بالسياسة وفق معطيات علمية، بل يعملون في السياسة ونصب عينيهم تحقيق مصالح الدولة وقد ينطوي عملهم أحياناً على خطوات وأعمال يعتبرها العلماء من قبيل المغامرات، والمجازفات .
سمعت يوماً وشاهدت بعيني الرئيس صدام يتحدث أمام التلفاز وجمع من المراقبين، بما معناه : أن الولايات المتحدة ارتكبت خطأ مميتاً وهاجمت العراق، فسيكون هذا العدوان هو بداية نهاية الإمبراطورية الأمريكية وسوف تظل تتدحرج إلى أن تصل القاع. وأني أعتقد أن الرئيس صدام كان سيعجز (لو سئل) عن تقديم الحجة العلمية / الفلسفية على مقولته الخطيرة، التي أطلقها على الأرجح في تنبؤ مدهش، ورؤية عبقرية للتطور وحتمياته التاريخية. إذن كيف تنبأ الرئيس صدام بهذه النهاية الفضيعة للولايات المتحدة، وما نشهده الآن هو المقدمات الحتمية لمسار تاريخي.
النظام الرأسمالي " رأسمالية الدولة الاحتكارية "، تمترست وراء شعارات "الديمقراطية"، " حقوق الإنسان "، " حقوق المرأة" ، و" حقوق المثليين " ، وفي الواقع الموضوعي تمارس الولايات المتحدة ما يخالف معظم هذه الشعارات. فمن أبسط الملاحظات التي يكتشفها أي إنسان دون أن يحتاج لثقافة عميقة، أننا لم نشهد تغيراً النظام الرأسمالي حتى بعد حروب عالمية (الأولى والثانية)، أو ما يقرب منها(كوريا، فيثنام، أفغانستان، العراق)، حروب كارثية زجت بلدانها فيها، تسببت في خسائر بشرية ومادية يصعب حصرها. ورتبت أوضاعها الداخلية بحيث يستحيل أن يحدث تغير جوهري في السلطة. والنظام الرأسمالي العولمي أرتكب خطيئة كبيرة وجرائم خطيرة ضد الإنسانية في العراق وأفغانستان، والجرائم التي أرتكبها الكيان الصهيوني محسوبة على النظام العولمي الداعم المادي والمعنوي للنظام العنصري.
النظام الرأسمالي لا يستطيع الاستمرار إلا على وقع هدير المدافع، والتوسع ضرورة واختلاق الأزمات والتصعيد لدرجة الصراعات المسلحة مهنة دوائر الحرب، ليجري تنفيس احتقان الموقف وإيجاد أسواق، حيوية للنظام الرأسمالي هي وفق قاعدة " من لا يكبر ... يصغر "