الشابندر.. شيخ المقاهي واستراحة المثقفين في بغداد
العرب/بغداد - في قلب شارع المتنبي في وسط بغداد أمضى عبدالفتاح النعيمي معظم سنوات عمره على طاولات مقهى الشابندر الذي مر قرن على افتتاحه شهد خلاله ثورات وانقلابات وتفجيرات واستحال "قِبلة المثقفين".
ويقول النعيمي، وهو باحث وأحد الرواد المواظبين على المقهى التاريخي "آتي إلى هنا منذ أكثر من 62 عاما (..) مذ كان عمري 17 سنة". ويضيف بابتسامة ونبرة افتخار "أجلس هنا من الساعة التاسعة حتى الثانية أو الثالثة بعد الظهر، إلى أن يغادر الجميع".
ويعود تأسيس مقهى الشابندر إلى العام 1917، وسمي باسمه الحالي الذي يعني كبير التجار باللغة التركية العثمانية، نسبة إلى صاحب المطبعة التي كانت في المكان عبدالمجيد الشابندر، ليصبح بذلك أول المقاهي التي تفتتح في المنطقة.
والمبنى الواقع على إحدى زوايا شارع المتنبي، مصمم على الطراز المعماري البغدادي القديم الذي يستخدم فيه الطوب والجص. وتشهد هذه الفخامة العمرانية القديمة على التاريخ الذي عايشه هذا المكان.
ويقول محمد أمين، من رواد الشابندر، إن تاريخ البلد يبدأ من المقاهي التي توجد بالأزقة والحارات الصغيرة. وبدأت تتوسع حاليا على شكل أكبر لكن تبقى المقاهي بهذه المكانة لها أثرها بالنفس العراقية وتبقى لها نغمة بالحياة.
ويقول صاحب المقهى منذ العام 1963 الحاج محمد الخشالي، الذي يرتدي دشداشة بيضاء تكسرها ألوان أحجار الخواتم في يده اليمنى "اليوم صار عمر المقهى مئة عام. أنت تجلس في كتاب تاريخ".
ويرجع الخشالي بذاكرته إلى السنوات الأولى من استلامه لإدارة المقهى ويقول "قررت حينها منع كل أنواع التسالي، من دومينو وأوراق لعب".
ويضيف "تعهدت على نفسي أن يكون هذا المكان منتدى أدبيا، وهذا ما حصل".
ومنذ مطلع التسعينات، وفي ظل الحصار الدولي الذي فرض على العراق، تحول شارع المتنبي ومقهى الشابندر خصوصا إلى ملتقى للمثقفين، ليصبح بعدها يوم الجمعة موعدا لكرنفال ثقافي أسبوعي.
وواكب الشابندر ثورات مفصلية في العراق، بدءا من "ثورة العشرين" مرورا بـ"ثورة 14 تموز" 1958 و"حركة 8 فبراير" 1963، وصولا إلى الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، إضافة إلى اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية للبلاد في العام 2014.
لكن هذا التاريخ أبى إلا أن يسجل اسم المقهى فيه بالدم، ففي مارس سنة 2007، استهدف شارع المتنبي التاريخي بسيارة مفخخة أودت بحياة أكثر من مئة شخص بين قتيل وجريح، ودمرت أشهر المكتبات التي التهمتها النيران. في ذلك اليوم، تحول الشارع إلى ركام وأنقاض، قضى تحتها حفيد وأربعة من أبناء الخشالي.
يستذكر الحاج الثمانيني تلك الحادثة بغصّة، ويرفض الحديث عنها قائلا "الحمد لله على كل شيء". ومذاك صار للمكان اسم ثان هو "مقهى الشهداء" كتب بخط صغير على اللافتة المعلقة عند مدخله.
وفي الداخل، تحكي جدران المقهى الشعبي تاريخا طويلا من الحياة البغدادية والعراقية عموما بعشرات من الصور المعلقة التي تعود إلى أكثر من مئة عام شهد عليها ملوك وأمراء وزعماء من العراق وخارجه.
من الملك فيصل، ورئيس الوزراء العراقي في العهد الملكي نوري السعيد، وصولا إلى عبدالكريم قاسم أول حاكم للعراق بعد انهيار الملكية، كان المقهى منطلقا للعديد من التظاهرات التي مرت بها البلاد في القرن العشرين، وخصوصا تلك التي ندد فيا العراقيون بمعاهدة بورتسموث في العام 1948.
وصاحب المقهى التراثي هو أيضا لا بد أن تكون فيه أصالة لعراقيته وبغداديته، ويغلب على نفسه دائما حب الربح والكسب ويُبقي على احترام الثقافة وقيمة البلد والمكان.
مقهى الشابندر الذي لا يسمح بلعب الدومينو أو النرد فيه، يقتصرُ على استقبالِ الناس وتقديمِ المشروبات وإقامة الندوات، إن لم يقدم الشابندر نفسه لزائره، فالجدران تحكي حكايتها من خلال الصور المعلقة التي تضمُ ذكريات عن كبار زواره من رؤساء دول وقادة وفنانين وغيرهم.
ويقول النعيمي المتأنق ببزة رسمية بنية وربطة عنق منتقاة وشعر أبيض مصفف بدقة "هذه مدرسة متنوعة (..) أنظر هنا، لا يوجد أحد من الموجودين ليست لديه بصمة على الحركة الوطنية، من نساء ورجال".
ويضيف "كنت أتردد على هذا المقهى، المختص بالثقافات المتعددة. لم يقتصر على جهة أو مذهب أو ثقافة معينة، كان يضم الكل".
وبين المقاعد الخشبية التي يتسع كل منها لثلاثة أشخاص، تعلو أصوات النقاشات السياسية والثقافية وحتى الفنية، تخرقها ندهات الزبائن "شايات اثنين آغاتي".
فيتنقل نُدل المقهى رافعين الصواني التي تحمل أقداح الشاي، فيحركونها على أكفهم بفن وخفة كأنهم يقدمون لوحة راقصة.
وفي وسط هذا الازدحام، يجلس الشاب رماح عبدالأمير وفي يده كتاب عن التاريخ الحديث للسياسة.
ويقول ابن الأعوام السبعة عشر إن المقهى "بات يشكل معلما تراثيا من بغداد القديمة. إرث لا يمكن التخلي عنه". ويضيف "هذا المكان صار قِبلة للمثقفين، ومدرسة تتناقلها الأجيال".
ولهذا يعتبر النعيمي أن "هذا المكان أنتج مدارس فكرية". ويضيف "هنا الجميع يحترم أفكار الجميع، وأنا أدافع عن فكرك ولو أختلف معك، حتى الموت".