قراءة في خطاب سماحة السيد القائد
هيفاء زنگنة
قراءة في خطاب سماحة السيد القائد
هل صحيح ما يقال إنه لم يعد هناك ما يثير الدهشة في « العراق الجديد»؟
الأسابيع الأخيرة تُثبت بما لايقبل الشك أن بإمكان ساسة العراق دحض حتى ما قاله أب الحركة السوريالية أندريه بريتون حين وصف خيبته بالعالم، ذات مرة، قائلا بأنه لم يعد هناك ما يثير الدهشة. ففي فترة قياسية أضيف إلى قائمة المصطلحات المستحدثة في العراق الجديد مثل «العملية السياسية» و»البيت الشيعي» و»المكونات» و»أذرع إيران»، مصطلح «الإطاريون» و»النواب البدلاء». بدأ وسم العراق بمصطلح «النواب البدلاء» بعد إلقاء خطاب يترك المرء بين منزلتي الضحك والبكاء، وعدم التصديق إلى حد ما، حيث أمر مقتدى الصدر (سماحة السيد القائد أعزه الله)، أتباعه من أعضاء البرلمان العراقي، بالاستقالة الجماعية، مُستَّهلا خطابه بأبيات « شعرية» من نظمه قائلا:
« أنا ابن النجف والحنانة/ أنا ابن محمد الصدر الذي رفض الظــلم والمهانة/ أنا الذي واجه الاحتـلال فأذلهُ وأهـانه/ أنا للإصلاح إستل سيـفه وأظهر أسنانه».
وفعلا، لبى النواب البالغ عددهم 73 نائبا، النداء بلا تردد هاتفين « نعم… نعم يا سيد». متجاهلين في فورة حماسهم الشعب الذي طالما كرروا أنه انتخبهم، وليس (القائد أعزه الله).
ليست هذه هي المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة (أو … لنتوقف هنا فالقائمة طويلة) التي ينسحب فيها الصدر من العملية السياسية، التي أسسها الاحتلال الأنكلو أمريكي بعد غزو العراق، منذ عشرين عاما تقريبا. إلا أن سبب إثارة الدهشة، هذه المرة، على الرغم من تعّود العراقيين على صعود وهبوط مزاج السيد القائد وكثرة انسحابه وعودته وإنكفائه إما في العراق أو إيران أو لبنان، بحجج تراوح بين إكمال الدراسة، حينا، وكتابة الشعر حينا آخر، كلما واجه أزمة لا يعرف كيف يتعامل معها، ما يثير الاستغراب، هذه المرة، قراره ألا ينسحب لوحده، إلى شرنقته، بل أن يأخذ معه 73 من نواب يُشكلون كتلة فائزة في الانتخابات. انتخابات وُصفت محليا وعالميا، بأنها الأكثر سلاسة ونزاهة، وأن شارك فيها 20 بالمئة فقط من المصّوتين، وكلّفت العراقيين ثروة كانوا بأمس الحاجة لها للتزود بأساسيات الحياة. وكما كان متوقعا، عززت الانتخابات بقاء معظم الوجوه، تقريبا، التي اعتلت السلطة في عقدي الغزو والاحتلال. ذات الوجوه المهيمنة بقوة الدعم الخارجي والفساد المالي والإداري الكبير، بضمنهم أتباع الكتلة الصدرية بلا استثناء. وكما كان متوقعا باتت نتائج الانتخابات أداة فعالة لصالح تمديد عمر منظومة الفساد بهامش تغيير بسيط لإعادة توزيع أدوارها، انسجاما مع التوازنات الإقليمية. ولم يُغّير الخلاف الحالي حول منصبي رئيس الوزراء والجمهورية، بعد مرور ثمانية أشهر على انتهاء التصويت وإعلان النتائج، من جوهر الهيكلة الأصلية. وأقصى ما حدث هو تغيير أسماء بعض الأحزاب والتحالفات، فتصاعدت على سطح المياه الراكدة فقاعات بمسميات على غرار الإطار التنسيقي، ومن هنا منشأ مصطلح إطاريون (قيادة ميليشيات الحشد الشعبي الموالية لإيران مع أحزاب وتكتلات مما يسمى البيت الشيعي) مقابل الكتلة الصدرية التي يتزعمها مقتدى الصدر وراثة عن أبيه الراحل، وبشكل غير مباشر عن « المهدي المنتظر»، ليسود النزاع المسرحي في أستوديوهات التلفزيون، كبديل للبرلمان، حول بأي شكل سيتم التهام ثروة العراق، وبأي واسطة؟ هل هي «الأغلبية» أم «التوافقية»؟
هذا الحال المضحك المبكي، ومع تدوير أسطوانة الانسحاب الجماعي إعلاميا، ومن ثم صعود «نواب بدلاء»، يستدعي سؤالا إفتراضيا، قد لا يقل عبثية عن إصدار الصدر أمر الانسحاب وكيفيته، وهو: هل بإمكان نواب انتخبهم الشعب (مهما كانت نسبة المصَّوتين) بانتخابات وُصفت بالنزيهة، الانسحاب جماعيا أو حتى فرديا بناء على أمر أصدره قائد الحزب؟ وكيف يُقارن هذا الوضع مع انسحاب/ استقالة نواب منتخبين في بلدان أخرى؟ لو نظرنا إلى الوضع ببريطانيا لوجدنا أنه، تاريخيا، لم يُسمح أبدًا بالاستقالة من مجلس العموم، وأن سُمح لخمسة نواب بالاستقالة في أوائل القرن السابع عشر بسبب اعتلال صحتهم. وفي 2 آذار/ مارس 1624، قام البرلمان بإضفاء الطابع الرسمي على الحظر من خلال إصدار قرار مفاده « لا يمكن للنائب، بعد أن يتم اختياره على النحو الواجب، التنازل عنه». إلا أن الاستقالة ممكنة لأسباب كالمرض والموت والتسبب بفضيحة أو اتخاذ موقف سياسي يتناقض تماما مع الموقف الحكومي. كما حدث عندما استقال روبن كوك، وزير خارجية المملكة المتحدة الأسبق، استنكارا لوقوف الحكومة برئاسة توني بلير بجانب أمريكا في غزوها العراق. ويترتب على الاستقالة الفردية إيجاد البديل عبر انتخابات في المنطقة التي يُمثلها النائب المستقيل.
هناك، أيضا، أمثلة لاستقالة مجموعة نواب من أحزابهم بسبب خلافات حول سياسات أحزابهم. ففي 18 فبراير 2019، استقال سبعة نواب من حزب العمال، وشكّلوا جمعية سياسية، إلا أنهم واصلوا عملهم كنواب. مما دفع الصحافة إلى مطالبة النواب المغادرين أن يستقيلوا أيضًا من مقاعدهم. بل وجادل البعض بضرورة الدعوة إلى انتخابات عامة كوسيلة لتصحيح الانحراف، وإلا أدت إلى تقويض المبادئ الديمقراطية الأساسية، لأن التغييرات لم تتم المصادقة عليها من قبل الناخبين في صندوق الاقتراع. وتشير أمثلة أخرى من عديد البلدان، حول العالم، أنه في حال استقالة جميع أعضاء المعارضة في البرلمان، فإن الحل الوحيد هو إجراء انتخابات جديدة. ويكاد لا يوجد نموذج يطابق ما يجري في العراق إذ لم ترد مفردة «استقالة» بل انسحاب، مما يبقي مجال العودة مفتوحا، وإن هدد الصدر بالانسحاب من العملية السياسية كي لا يشترك « مع الفاسدين بأي صورة من الصور لا في الدنيا ولا في الآخرة». وكأنه كان مشتركا مع الأنقياء الطاهرين منذ مأسسة العملية السياسية وحتى اليوم، متسائلا لدعم دعوته إلى إنهاء الفساد والتوافق « الى متى يبقى البعير على التل». وهي جملة يرددها الأطفال، بمستوى الصفوف الأولى في المدرسة الابتدائية، في «القراءة الخلدونية»، لتعلم قراءة الحروف. وتأخذنا الجملة المقتبسة إلى تساؤل تثيره خطابات الصدر وسلوكه، عما إذا كان قائد أكبر كتلة سياسية في العراق لايزال، عقليا ونفسيا، بمستوى تلميذ بمدرسة إبتدائية أم أن من يأمرهم ويخاطبهم ويلبون أوامره هم الذين لا يزالون هناك؟