إعترف وإلا… ثقافة التعذيب في العراق
هيفاء زنكنة
إعترف وإلا… ثقافة التعذيب في العراق
يُصر المسؤولون العراقيون في لقاءاتهم الدورية مع ممثلي المنظمات الحقوقية الدولية على إنكار ممارسة التعذيب في أماكن الاحتجاز. وحالما يواجهون بشهادات ووثائق تثبت العكس يلجأون إلى القول بأنها حالات منعزلة وليست ممارسة منهجية أو واسعة النطاق. وهو ذات التبرير الذي طالما قدمته إدارة الاحتلال الأمريكي حين كانت قواتها تمارس الانتهاكات والتعذيب ضد المعتقلين العراقيين، أو حتى القتل، ملقية اللوم على « بضع تفاحات فاسدة». ولا تختلف صيغ الانكار من وزارة إلى أخرى، ومثالها النفي المطلق لحدوث حالات تعذيب في السجون كما فعل المتحدث باسم وزارة العدل، قائلا إن «السجون التابعة لوزارة العدل تخلو من التعذيب» حين جوبه بتقرير للأمم المتحدة أوضح أن أساليب التعذيب تشمل «الضرب المبرح، والصعق بالكهرباء، والوضعيات المجهدة، والخنق» بالإضافة إلى العنف الجنسي وما وصفه بعض المحتجزين، خجلا، بأنه معاملة «لا يستطيعون التحدث عنها».
ولنفترض صحة التصريحات الحكومية العراقية عن الحالات الفردية المنعزلة لبعض الجلادين المصابين بعُقد سادية، وأن التعذيب هو الاستثناء، فلِم لَم يتم تنظيف السلة من التفاح الفاسد في السنوات العشرين الأخيرة في ظل النظام الحالي؟ ولِم تواصل المنظمات الدولية والمحلية إصدار التقرير تلو التقرير موِثِقة حالات تعذيب مرعبة، بلا توقف، على مر السنين، من بينها سبعة تقارير أصدرها مكتب حقوق الإنسان التابع لبعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق ( يونامي)؟
يكمن الجواب البسيط لمثل هذه التساؤلات في أن ممارسة التعذيب في العراق ثقافة شائعة ومبررة ومستساغة لدى القوات الأمنية وأجهزة الشرطة والمليشيات، بكافة مستوياتها، وبكل مواقع الاحتجاز والسجون، يعززها مناخ الإفلات من العقاب، والايمان بأن التعذيب هو الوسيلة الأفضل والأسرع لاستخلاص الاعتراف، أيا كانت طبيعته. كما أن الإعدام هو الحل الأفضل للتخلص من المتهمين الذين، غالبا، ما يعترفون بارتكاب كل الجرائم المطلوب منهم الاعتراف بها، جراء التعذيب حتى يقال أن متهما اعترف بتفجير نفسه مرتين!
وزاد التعذيب إنتشارا دور المحتل الأنكلو أمريكي في إبداع أساليب معاملة مبتكرة بحق المعتقلين، رجالا ونساء، كما شاهدنا في أبو غريب والمعسكرات الأمريكية والبريطانية. وحين زكمت الأنوف رائحة الانتهاكات والاعتداءات الفاضحة قررت إدارة الاحتلال غسل يديها من دماء المعتقلين فقامت بتسليمهم إلى جلادين محليين متواطئين معها، مانحة الضوء الأخضر باستمرارية الاستخدام الممنهج للتعذيب والتغاضي عنه. فلم يعد السؤال بصدد معاملة المعتقلين جراء كثرة الانتهاكات هو هل هناك تعذيب أم لا بل أصبح السؤال عن مدى منهجية التعذيب وشموليته وأنواعه، حيث أصبح التعذيب حقيقة واقعة لا تقبل الانكار مهما كانت تبريرات الساسة العراقيين.
من مفارقات الوضع المأساوي أن العراق وقع على اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة (UNCAT) في عام 2011. من هذا المنطلق، بحثت لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة، في 26 نيسان/ أبريل 2022، التقرير الدوري الثاني للعراق، والذي تشرح فيه السلطات العراقية الخطوات المتخذة لتنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب. أثناء الحوار التفاعلي مع اللجنة، وكالعادة، أنكر ممثلو العراق وجود التعذيب على الرغم من تلقي اللجنة «تقارير تشير إلى أن الأشخاص المحتجزين، بما في ذلك في المنشآت الخاضعة لسلطة القوات الأمنية والمرافق التي يُقال إنها غير معروفة للمحتجزين، يتعرضون للتعذيب أو سوء المعاملة «.
كما فنّدت اللجنة عديد الادعاءات الرسمية ومن بينها إدعاء السلطات أن «الأحكام الصادرة عن المحاكم العراقية لا تعتمد على الاعترافات وحدها بل على مجموعة شاملة من الأدلة» حيث وجد أعضاء اللجنة أن الاستجوابات التي تجريها قوات الأمن، في الممارسة العملية، تهدف بشكل عام إلى انتزاع الاعترافات، مما يساهم في إجراءات قسرية. وأن الآليات القائمة لتلقي شكاوى التعذيب والتحقيق فيها «لا تؤدي عملياً إلى مساءلة جادة لمرتكبي التعذيب».
بعد مناقشة الإطار القانوني العراقي لمكافحة التعذيب وعدم مراعاة الضمانات القانونية، أعرب خبراء الأمم المتحدة عن قلقهم إزاء مزاعم التعذيب أو سوء المعاملة على نطاق واسع وعدم المساءلة عن مثل هذه الأفعال. كما تم أيضًا التطرق إلى معاملة السجناء المحكوم عليهم بالإعدام وكذلك الانتهاكات التي حدثت في سياق احتجاجات 2019-2020. فتوصلت اللجنة إلى حصيلة مفادها أن العراق لم يحرز أي تقدم، في هذا المجال، منذ آخر مراجعة في عام 2015.
استوقفت اللجنة، كما في كل التقارير الدولية الأخرى، سرعة إصدار أحكام الأعدام وكثرتها وتنفيذها. فعلى الرغم من حقيقة أن نظام العدالة الجنائية معروف بالاستخدام الواسع النطاق للتعذيب والإكراه على الاعترافات، وعلى الرغم من الانتهاكات الجسيمة للإجراءات القانونية الواجبة، نفذت السلطات العديد من عمليات الإعدام.
وحسب بيان صادر عن وزارة العدل في سبتمبر / أيلول، فإن السلطات تحتجز ما يقرب من 50 ألف شخص للاشتباه بصلاتهم بالإرهاب، وحُكم على أكثر من نصفهم بالإعدام.
وهو رقم مذهل بكافة المقاييس، مما يضع العراق بين الدول الست الأولى في العالم المسؤولة عن 85 بالمئة من تنفيذ أحكام الإعدام بمتهمين، غالبا، ما يعترفون بالجرائم نتيجة تعرضهم للتعذيب، مما يعني أن السلطات نفسها تنتهك القانون بحجة محاربة الإرهاب واستتاب الأمن. وهو ما يدحضه الواقع الأمني العراقي، إذ لم تؤد ممارسة التعذيب وتنفيذ الإعدام إلى استتاب الأمن أو ما تدّعيه السلطات من وضع حد للإرهاب، خاصة مع تفشي انتهاكات وجرائم الميليشيات الداعمة لأحزاب فاعلة ضمن السلطة. وستبقى نافذة الأمل مغلقة أمام المعتقلين وذويهم، مهما كانت التهم الموجهة إليهم، ما لم يتم تطبيق القوانين والالتزام بها بالإضافة إلى العمل الجاد على تغيير القبول المجتمعي لثقافة التعذيب. وكما يُذّكرنا رئيس جنوب أفريقيا الرحل نلسون مانديلا أن بالإمكان منع العنف لأنه خلافا لافتراض العديد من الناس الذين يعيشون مع العنف يومًا بعد يوم ليس جزءا من الحالة الإنسانية. وبالإمكان قلب الثقافات العنيفة… وبإمكان الحكومات والمجتمعات والأفراد إحداث التغيير، إذا كنت النية صادقة.