تقليعة لقاءات “كبار المسؤولين” بالسفراء الاجانب احد فنون الدبلوماسية المستحدثة والغريبة في العراق.. لماذا الاصرار عليها ومن يشجعها؟
د. سعد ناجي جواد
تقليعة لقاءات “كبار المسؤولين” بالسفراء الاجانب احد فنون الدبلوماسية المستحدثة والغريبة في العراق.. لماذا الاصرار عليها ومن يشجعها؟
المظاهر السلبية في السياسة العراقية بعد 2003 كثيرة، ولعل اكثرها ضررا هو تفضيل الغالبية العظمى من السياسيين التعامل والرضوخ للاجنبي بدلا من ابن البلد. واوضح دليل على هذه الحالة هي لقاءات المسؤولين العراقيين مع سفراء الدول الغربية في بغداد، والتي تزايدت بشكل ملفت للنظر، بسبب وبدون سبب. فلا يمر اسبوع الا وتنقل وسائل الاعلام المختلفة لقاء لاكثر من (مسؤول كبير) مع سفير دولة اجنبية. ولو اجرينا احصاءا سريعا لهذه اللقاءات سنجد ان حصة الاسد ستذهب الى السفير (السفيرة الان) الامريكي ثم ياتي السفير البريطاني والفرنسي والالماني والايراني والتركي، بالاضافة الى اللقاءات مع ممثلة الامين العام للامم المتحدة، التي في الحقيقة تعدت لقاءاتها (المسؤولين الكبار) الى لقاءات مع قادة فصائل مسلحة او مليشيات غير رسمية. لا بل اصبحت بعض الاحزاب او الحركات السياسية لا تتحرك الا بمباركة سفير دولة اجنبية، وبالذات السفيرين الايراني والتركي. وفي عز الازمة التي تحيط بالعراق اليوم، وشبه انعدام اللقاءات بين (قادة) الكتل السياسية المتنافسة على المناصب، وليس على مصلحة الشعب العراقي، نجد ان (القيادات) المتنافرة فيما بينها تحرص اكثر على الالتقاء بالسفراء الاجانب. ربما هناك من يقول ان السفراء هم من يطلبون هذه اللقاءات، وقد يكون هذا الادعاء صحيحا بالنسبة لعدد قليل جدا من اللقاءات، الا ان الحقيقة تقول ان الجزء الاكبر منها ياتي بطلب من الجانب العراقي. او ان الدولة الاجنبية تجد ان من مصلحتها اصلاح ذات البين بين الكتل المتنافرة التي تخدم مصالحها. اما الاطراف الاكثر لجوءا لهذا الاسلوب حاليا فهي، وحسب ما ينشر في الاعلام، قيادات الاحزاب الكردية والسيد رئيس البرلمان، و رؤوساء الكتل والاحزاب السياسية، التي فازت في الانتخابات بل وحتى التي خسرتها. وربما يجد او يُوجٍد البعض عذرا لهذه العلاقات غير الطبيعية، او ان يقول ان مادتها واسبابها كانت لخدمة العراق والعراقيين، الا ان كل الدلائل تشير انها لم تقدم شيئا ملموسا للبلاد. وانما كان غرضها هو لاظهار دعم السفير ومن بعده دولته لهذا السياسي او ذاك او الكيان الذي يراسه. فمثلا في عز ازمة الجفاف القاتلة التي تعاني منها بلاد الرافدين لم نسمع عن احد المحسوبين على تركيا او ايران ان استخدم (نفوذه) في اقناع حكومتي البلدين على ايقاف عملية حجب مياه الانهار العراقية التي تنبع من البلدين. كما لم نسمع ان استهجن احد من الذين يمتلكون علاقات متينة مع الدولتين القصف المستمر الذي تقوم به الدولتان للاراضي العراقية بين الحين والاخر، والذي غالبا ما يذهب ضحيته اناس ابرياء، وكان اخرها المجزرة التي حدث في مصيف قرب مدينة زاخو بالقرب من الحدود مع تركيا.
هناك من يدعي ان هذا العمل واجب من واجبات السياسيين، او من متطلبات العلاقات الدولية، والرد او السوال الصحيح الذي يوجه الى من يدعي ذلك هو اليس من الاجدر بهولاء (السياسيين) ان يلتقوا فيما بينهم، بل وان يكثفوا لقاءاتهم لايجاد حلول للمازق السياسي الذي تعيشه البلاد، وخاصة ذلك الذي تصاعد منذ تسعة اشهر، اي منذ الاعلان عن نتائج الانتخابات، والذي يتسبب في العجز عن تشكيل حكومة جديدة؟ واليس من الاجدر تداول الهم العراقي داخليا بدلا من نشر غسيل الخلافات الداخلية امام السفارات الاجنبية؟ او محاولة كل طرف الاستقواء بالسفارات على الطرف الاخر؟ او محاولة استجداء الدعم من السفارات بدلا عن البحث عن د عم الشعب العراقي؟ علما بانه لم يُسجل لاي سفير اجنبي ولو جهدا بسيطا في التقريب بين المتخاصمين، بل على العكس فان جهد غالبيتهم انصب وينصب على دعم طرف ضد طرف اخر. لا بل ان هناك قصصا كثيرة متداولة عن قيام سفراء بتهديد مسؤولين كبار ووزارء في الدولة العراقية جهارا نهارا. اما اسلوب توبيخ السفراء الذين يتجاوزون مهامهم الدبلوماسية، او اتخاذ قرار بطردهم فلقد اختفى من واجبات وزارة الخارجية العراقية منذ بداية الاحتلال، ولم يحدث الا مرة واحدة وبضغط من دولة اجنبية.
ان من بديهيات العمل الدبلوماسي في دول العالم التي تحترم نفسها ان تكون تحركات السفراء الاجانب وفق تعليمات وضوابط محددة تختلف من دولة الى اخرى، ولكن الاساس يبقى هو ان يكون حرص الدولة واضحا على ان لا يتدخل اي سفير في شؤونها الداخلية. المسالة المهمة الاخرى هي ان الجهة الوحيدة التي يحق لها استدعاء السفراء، او التي يحق للسفراء المعتمدين فيها ان يلجاوا اليها هي ان يطلبوا لقاءا مع وزارة الخارجية لاغير. علما بان من بديهيات السياسة بل وابجدياتها ان السفير لا يمكن ان يكون وسيطا نزيها في المشاكل التي تظهر في الدولة التي يعمل فيها، لانه في النهاية يحرص على تمثيل مصالح دولته.
وما دام الشيء بالشيء يذكر فان العمل الدبلوماسي العراقي بعد 2003 ولا يزال يمثل استثناءا واضحا بل ويمكن اعتباره خرقا فاضحا لكل الاعراف الدبلوماسية المتعارف عليها دوليا. فمثلا ان العراق هو الدولة الوحيدة في العالم الذي عين ويعين سفراء يحملون جنسية الدولة التي اعتمدوا فيها، مثلا سفير يحمل الجنسية البريطانية يعين سفيرا للعراق في بريطانيا، واخرى تحمل الجنسية الاميركية عينت سفيرة في واشنطن، واخرين غيرهم من حملة نفس جنسية البلد الذي اعتمدوا فيه في اوربا. ناهيك عن العدد غير القليل من السفراء الذين يحملون جنسيات دول اوربية اخرى واعتمدوا في دول اوربية وغير اوربية. في احصائية ثبتتها قناة الجزيرة عام 2010، اكدت ان حوالي 80% من سفراء العراق في الخارج يحملون جنسيات اجنبية. اما السيد ابراهيم الجعفري وزير الخارجية الاسبق، الذي هو ايضا من حملة الجنسية البريطانية، فلقد اكد في عام 2018 ومن داخل البرلمان ان 32 سفيرا عراقيا من اصل 66 في الخارجية العراقية يحملون جنسية اجنبية. وبرر ذلك ان البرلمان هو من صادق عليهم ليتخلص من المسوولية، (من الطرائف التي نقلت عن السيد الجعفري بعد احتلال العراق مباشرة، وتعيينه في مجلس الحكم، انه طلب مقابلة السفير البريطاني، الذي لبى الطلب مباشرة على اساس ان هناك مشكلة تهم العراق تستوجب المناقشة، وعندما التقى بالجعفري سألهُ الاخير عن سبب تاخر اصدار جوازه البريطاني بعد ان كان قد حصل على الجنسية البريطانية). ووصل الامر بقسم من هولاء السفراء او القناصل ان جاهروا بدفاعهم عن مصالح الدولة التي يحملون جنسيتها على حساب المصالح العراقية، او شاركوا في تظاهرات وفعاليات ضد العراق، بل ان بعضهم رفع العلم الاسرائيلي في بعض الفعاليات.
ان يكون عدد نصف السفراء من حملة الجنسيات الاجنبية هي ظاهرة دبلوماسية سلبية بكل المعايير، الا ان هناك من يقول ان هذه الحالة قد تهون امام كارثة ان يكون رؤوساء الجمهورية كافة بعد عام 2003 وكذلك كل رؤوساء الوزراء، باستثناء واحد فقط، هم من حملة الجنسية البريطانية وواحد الفرنسية. وكذلك الحال مع قيادات اقليم كردستان العراق. علما بان الدستور الذي اجاز حق الاحتفاظ بجنسيتين، اكد في المادة 18 ان على من يحصل على منصب حساس، مدير عام فما فوق، ان يتنازل عن جنسيته الاجنبية، فلقد ثُبِت في الفقرة رابعا من تلك المادة مايلي: (يجوز تعدد الجنسية للعراقي، وعلى من يتولى منصبا سياديا التخلي عن اي جنسية اخرى مكتسبة). وتكرر النص ذاته في قانون الجنسية الجديد (2006) المادة تاسعا (لا يجوز للعراقي الذي يحمل جنسية اخرى مكتسبة ان يتولى منصبا سياديا او امنيا رفيعا الا اذا تخلى عن جنسيته [المكتسبة]). وطبعا هذا الامر لم يحصل.
المشكلة في هذه الظاهرة هي ليست في غرابتها وشيوعها وتفشيها بشكل كبير، ولكن في كونها تمثل مشكلة قانونية ودستورية، حيث ان المتجنس بجنسية اجنبية عليه ان يؤدي يمين الولاء للملكة او الملك او الدولة التي منحته الجنسية الجديدة. وبالتالي فانه مطالب قانونيا بان يقدم مصلحة الدولة التي منحته جنسيتها على مصلحة العراق. ولا يوجد ما يعرف بازدواجية الولاء. الملفت للنظر انه عندما تفشت ظاهرة الفساد في عراق ما بعد الاحتلال وصدرت احكام ضد مسؤولين فاسدين لجأوا الى الدول التي اكتسبوا جنسيتها مع ما سرقوه من سحت حرام، ولم تقم تلك الدول التي تطبق قوانيين مشددة ضد الفاسدين او من يتهمون بغسيل الاموال، بمحاكمة او محاسبة مسؤول واحد من هؤلاء، وسمحت لهم بالعيش الرغيد والتمتع بما سرقوه من اموال الشعب العراقي.
طبعا لا يمكن وضع كل الدبلوماسيين والسفراء العراقيين في سلة واحدة او الحكم عليهم بحكم واحد، فهناك من قام او يقوم بعمله على اكمل وجه، مقابل ذلك هناك من قدم شهادة مزورة وسرق وافسد، وبما ان اغلب من تسنم حقيبة الخارجية كانوا من غير المؤهلين لهذا المنصب، وطالما ان الاحزاب هي التي تختار الاشخاص الذين يتم تعيينهم في الخارجية، وطالما ظل اسلوب تعيين ابناء المسؤولين في السلك الدبلوماسي ، فان هذه المشكلة ستستمر طالما بقي هذا النظام الذي اسسه الاحتلال.
اخيرا وليس اخرا فان استمراء الارتماء في حضن الاجانب لن ينقذ العراق من محنته، وان السعي والتهافت على لقاء سفراء الدول الاجنبية ليس هو الحل لمعاناة العراقيين، وان على القضاء، الذين فشل لحد الان في التصدي للكثير من الظواهر السلبية والهجينة، ان يفعّل القوانين التي تحرم هذه الممارسات التي تمثل اهانة لكرامة الدولة ولسمعتها الدولية، وقبل ذلك لشعبها.