كتاب معجم حكام العراق / الحلقة الثامنة
بسام شكري
كتاب معجم حكام العراق - الحلقة الثامنة
الحكم العباسي للعراق
يعتبر تاريخ العراق السياسي على عهد بني العباس تاريخ العالم بأسره خلال خمسة قرون، تولى الخلافة فيها أول الأمر خلفاء عظام، أسسوا المُلك، ووطدوا الحكم ونشروا العدل وقد كانوا مصدر جميع السلطات من عسكرية وقضائية وإدارية كما دوخوا الروم بالمعارك الطاحنة التي كانت في بادئ الأمر لنشر الدين واعزازه. فأصبحت في عهود بني العباس لإثبات هيبة الملك ورد عادية الطامعين والرغبة في سبيل الفتح، ثم الجهاد في سبيل الله ونشر الدين في العالم.
ومن أهم الأحداث التي شهدها العراق في عصور حكم العباسيين الأول نكبة البرامكة الذين أوجس الرشيد منهم خيفة على مُلكه، وميلا إلى مناويهم من العلويين واستئثارهم بالإدارة وطمعهم بالسلطان واجتذابهم الرعية والبذخ ولا تزال حتى اليوم في بغداد تستعمل كلمة برمكي للدلالة على الشخص الكريم في الوقت الذي كان كرمهم ليس خصلة من خصالهم او حبا بالناس وانما من اجل كسب الناس وانتزاع المُلك من اسيادهم العباسيين.
ومنها المعارك العنيفة بين الأخوين الأمين والمأمون أو بين العرب والفرس والتي كانت نهايتها بمقتل الأمين ومبايعة المأمون ونقل العاصمة من بغداد إلى مرو عاصمة خراسان التي كانت مركز النشاط السياسي للفرس ، ثم قيام الفضل بن سهل بتدبير الأمور بدلا من المأمون الخليفة العباسي الشرعي وقد بقى المأمون في هذه الفترة شبة حبيس في قصره بمدينة مرو , ثم الاضطرابات التي حدثت في بغداد على أثر ذلك وانتخاب إبراهيم بن المهدي عم المأمون خليفة للمسلمين الذي اثارته الأطماع الفارسية والنزعة العلوية وإبدال شعار الدولة ونقل العاصمة من بغداد الى مرو.
ومن الأحداث المهمة أيضا أن الخليفة الواثق بالله عندما توفى لم يعهد بالخلافة لأحد من بعده فاختار كبراء الدولة جعفر بن المعتصم خليفة ولقبوه بالمتوكل على الله. وكان هذا شابا قوى الشكيمة ماضي العزيمة نظر إلى ما حوله من الأجناد فرأى أن أكثرهم من الأعاجم الذين لا يوثق بإخلاصهم ولا يؤمّن جانبهم فالتفت إلى العرب فلم يجد منهم العدد الذي يحتاج إليه ، لأن الفتن والحروب انهت أكثرهم ، ففكر أن ينقل العاصمة سامراء إلى الشام ، فيختار منهم جيشا يقل به غرب هؤلاء المماليك الجفاة , فشخص إلى دمشق سنة 243هـ ونقل اليها دواوين الحكومة فنظر رؤساء الأجناد من الأتراك الى عمله وفطنوا الى غايته فحثوا الجند على الشغب والمطالبة بأرزاقهم واعطياتهم فأجابهم الى ذلك ثم رأى انه اذا استمر على الإقامة في دمشق استمر هؤلاء الاجناد الى احداث الاضطرابات , فاظهر أن هواء دمشق وماءها لا يوافقان صحته ، وأن الأطباء أشاروا عليه بالرجوع فعاد إلى سامراء .
ومن الأحداث المهمة أيضا اغتيال المتوكل على الله وانتقال السلطة من يد الخلفاء الذين كانوا يدبرون كل شيء إلى القواد الأتراك الذين تحكموا في الأمور وصاروا يبايعون ويخلعون تبعا لمصالحهم وركضا وراء أهوائهم وربما بيعت الخلافة بدراهم معدودة كما حدث في عهد المستكفي بالله.
ففي هذه الأدوار استخف أمراء الأطراف بالدولة واستقلوا بما تحت أيديهم وقد كثرت الفتن والاضطرابات كثورة الزنج والقرامطة والإسماعيلية، بل ربما غزيت بغداد وفيها الخليفة العباسي المستضعف فينهزم صاغرا ذليلا كما فعل البريدي أحد أمراء الأقاليم حين غزا بغداد من دجلة سنة 329 هـ، وانهزم الخليفة الراضي بالله إلى الموصل وفيها بنو حمدان.
ثم حكم البويهيون البلاد باسم الخليفة العباسي المستضعف كما حكمها من بعدهم السلجوقيون حتى أله هذه المملكة المتسعة الأطراف إلى الانقراض وذلك باستيلاء هولاكو عليها.
وقد قضى أكثر الخلفاء حياتهم الخاصة بين الجواري والغلمان والإماء والغراميات لذلك نجد أكثر الخلفاء أبناء أماء وجوار تركيات أو روميات أو فارسيات، وربما كانوا أبناء حبشيات أو بربريات كما سيمر بنا في ثبت خلافتهم.
بنـــاء بغداد 145 -149 هــ
أتخذ العباسيون مدينة الكوفة أول عاصمة لهم، ثم بنوا لهم على مقربة منها عاصمة أسموها (الهاشمية) اتخذوها بعد الأنبار، ثم أخذ أبو جعفر المنصور الخليفة الثاني يفكر في نقل عاصمة ملكه إلى موطن يؤمن فيه الفتن والاضطرابات ويعصمه من عاديات الخوارج الذين بدئوا حركتهم في الكوفة باسم (الرواندية) فبعث القواد أولا ثم أخذ هو يرتاد موضعا بنفسه يقيم فيه عاصمته المرجاة.
فوقع اختياره على البقعة التي بين مصب نهر ديالي في دجلة فأقام فيها أياما ليختبر بنفسه جوها وتربتها، وما يتصل بذلك من عوارض الطبيعة فاستحسن موقعها ورجحها على غيرها من البقاع لأسباب اقتصادية وعسكرية وصحية ثم أحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبناء والعلم بالزرع والمساحة وقسمة الأرضين. ومثل لهم صفتها التي تصورها ثم استحضر الفعلة والصناع من النجارين والحدادين وغيرهم.
وأجرى عليهم الأرزاق كما كتب إلى كل بلد لحمل من يعرف شيئا من أمر البناء فأمر أن تخط بالرماد ثم صار يدخل من كل باب فصلانها وطاقتها ورحابها، ثم أمر أن يجعل على تلك الخطوط حب القطن ويصب عليه الزيت فنظر إليها والنار تشتعل في خطتها فعرف رسمها وفهم شكلها.
وأمــــر أن يحفــر ذلــك كمــا هــو سنـــة 145 هـ فـوضـــع بيـــده أول لبنه وقال: - ((بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والأرض لله، يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين)). ثم قال: - ((ابنوا على بركة الله)).
وفي سنة 149 هـ، تم بناؤها وكملت مرافقها وكان في جملة من أشرف على بنائها الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ثم أمر المنصور بإجراء الماء إليها في قناتين إحداهما تأخذ الماء من نهر دجيل الآخذ من نهر دجلة والثانية من نهر كرخايا الآخذ من نهر عيسى الآخذ من الفرات , وكانت تلك المياه تجرى في مجار من خشب الساج وكان قد فعل ذلك لئلا تدخل دواب السقاءين إلى المدينة فتلوثها .
وقد يستغرب أبناء هذا العصر وصف مدينة بغداد برقة الهواء ولطف الجو، وجمال المناخ، حتى صار ذلك سببا في اختيار موقعها. مع أن هواءها اليوم شديد الحر في أيام القيظ، والجواب على ذلك هو أنها كانت محاطة ببساتين وقرى كثيرة جدا تتخللها الأنهار المتشعبة
فقد كانت على نهر الملك وهو الذي يسمى اليوم نهـر (نهر الخر) ثلاثمائة وستون قرية عامرة وقد وصف المؤرخون كثرة الزرع حولها، أن الديكة كانت تتجاوب من بغداد إلى البصرة ولذلك سميت هذه المناطق – أرض السواد – لأن الزرع الأخضر يبدو للعين عن بعد أسود أما اليوم فأرض السواد خراب يباب ينعق فيها البوم، وقلما نجد حول بغداد قرى وبساتين وأنهار. لذلك فسد جوها وتغير هواؤها.
ولم يكد العباسيون يتخذون بغداد عاصمة لملكهم حتى أقبل عليها من كل صوب وحدب وتكاثف فيها رجال المال والأعمال فأكثروا من إنشاء الدور والقصور وكانت الدولة تشجع على ذلك، وتمد أهل النشاط من التجار والصناع برعايتها وفضل عنايتها وفي الحق أنه لم تصل مدينة من مدن الإسلام في العصور الخالية إلى ما وصلت إليه بغداد من سعة العمران ونبالة الآثار كما أنه لم تصب مدينة منها بما أصيبت بت بغداد من الكوارث والحوائج فكما تضافرت اليد على عمرانها ورفعت شأنها تضافرت الخطوب والكوارث على تمزيق أديمها ومحو قديمها. فقد تعاونت أيدي الغرباء من الأجناد والفاتحين من المغول ومن لف لفهم وفيضانات دجلة والفرات والأمراض الوافدة على تدميرها وطمس معالمها حتى لم يبق من رسومها اليوم أثر يمكن أن يهتدي به المباحث المنقب إلى تعيين المواضع التي كانت تقوم عليها تلك القصور الشاهقة والمباني الشامخة والمساجد الجامعة والمدارس العظيمة التي كانت تملأ سمع الزمان وبصره، اللهم إلا بعض طلول لا تزال ماثلة، مثل المدرسة المستنصرية وباب الطلسم وبعض المآذن وبقايا خراب قصر على دجلة من الجانب الشرقي. وعلى الرغم من كل ذلك يبقى السر العظيم الذي أودعه باني بغداد أبو جعفر المنصور عندما وضع اللبنة الأولى لبغداد ماثلا للعيان فكل الغزاة واللصوص سرعان ما يتلاشون وينقرضون ويرجع وجه بغداد المتبسم وترجع روح الف ليلة وليلة.
الباحث
بسام شكري
Bassam343@yahoo.com
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://www.algardenia.com/maqalat/55254-2022-08-21-09-59-08.html